وليد نويهض
ثلاثة مسارات فلسطينية تتحرك في وقت واحد. الأول مسار المفاوضات المباشرة بين السلطة وحكومة تل أبيب. الثاني مسار الاتصالات المباشرة بين حماس وأجهزة أميركية. الثالث مسار اللقاء بين فتح وحماس في دمشق.
المسارات الثلاثة ليست جديدة، فهي تشبه الملاذات التي يتم فتح قنواتها في مناسبة ويعاد غلقها بعد أن تفشل في التوصل إلى تفاهمات تلبي حاجات سكان الأرض المحتلة. منذ تسعينات القرن الماضي بدأت المفاوضات المباشرة بين الجانب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي وجرى خلالها التوقيع على اتفاقات وتفاهمات بحضور دولي ورعاية عربية وانتهت في معظمها إلى التجميد وعدم استعداد حكومات تل أبيب على الوفاء بالتزاماتها ووعودها. والآن يتكرر المشهد في ظل إدارة باراك أوباما التي تعهدت أن تبذل الجهد المطلوب لإنجاح المفاوضات في نهاية السنة المقبلة. ومنذ تسعينات القرن الماضي أيضاً بدأت حماس تفتح قنوات الاتصال مع مراكز قوى في الولايات المتحدة بقصد تشكيل خط مواز لسلطة منظمة التحرير الفلسطينية وتكوين هيئة بديلة تكون جاهزة للحوار حين تصطدم المفاوضات بحائط مسدود.
إلى المسارين تشكل في العام 2005 المسار الثالث الذي تطور في سلسلة انقسامات فلسطينية أدى في النهاية إلى انشطار غزة عن الضفة وتأليف إمارة خاصة في القطاع تنطلق منه حماس لتكون قوة مرادفة لحركة فتح وتطمح أن تأخذ عنها زمام المبادرة للتفاوض مع واشنطن وتل أبيب.
المسار الثالث الذي دخل في قنوات عربية وإقليمية لا يمكن التعامل معه في سياق أيديولوجي - برنامجي لأنه لا يختلف في خطوطه العامة عن المنطق السياسي الذي تعتمده السلطة الفلسطينية في تبرير تفاوضها مع الاحتلال. وحماس التي لا تنكر اتصالاتها مع واشنطن منذ تسعينات القرن الماضي لا تتردد في الإعلان عن قبولها بالدولة الفلسطينية ضمن حدود العام 1967 واستعدادها للتعايش مع الاحتلال وترتيب هدنة عسكرية تضمن الاستقرار وتمنع تساقط الصواريخ.
اضمحلال الاختلاف بين البرنامجين الفتحاوي والحمساوي لم يمنع استمرار الانقسام الفلسطيني الذي تطور أيديولوجياً إبان الانتفاضة الأولى، وتطور سياسياً خلال اندلاع الانتفاضة الثانية، وانتهى تنظيمياً بعد رحيل القائد المؤسس ياسر عرفات الذي غادر الدنيا في ظل إعادة الاحتلال ومحاصرة مقره الرئاسي في رام الله.
الانقسام الآن في ظل استئناف الحوار في دمشق لإعادة تنشيط حفل توقيع الاتفاق الفلسطيني في القاهرة لم يعد له صلة بالبدايات الأيديولوجية التي كرست مفاصل اعتمدت عليها حماس لتمييز دورها عن مختلف الفصائل المنضوية تحت مظلة منظمة التحرير. آنذاك كانت حماس تتحرك خارج الشرعية الفلسطينية مستفيدة من تجربتها الأخوانية في الأراضي المحتلة واقتصار نشاطها على المجالات الإنسانية والحقول التربوية.
بدأت المشكلة في تسعينات القرن الماضي حين قررت حماس عدم الدخول في إطار منظمة التحرير إلا إذا وافقت القيادة على شروطها وتحديداً اعتبارها قوة ثانية موازية لحركة فتح في اللجنة التنفيذية. وردت قيادة منظمة التحرير على شروط حماس برفض قبول عضويتها إلا إذا وافقت على برنامجها السياسي الذي يعترف بحدود 1967 ولا يعارض التفاوض مع العدو من حيث المبدأ.
الاختلاف في تلك الفترة لم يقتصر على التمايز الأيديولوجي وإنما تأسس على قاعدة نسب المحاصصة وتوزيع المقاعد بالتساوي مع فتح في اعتبار أن معظم الفصائل الأخرى (قومية ويسارية التوجهات) هي أقرب إلى زعامة عرفات وشعبيته الخاصة التي لا منافس لها في الشارع الفلسطيني. مشكلة توزيع الحصص كانت العائق الذي منع حماس من الدخول والانضواء تحت مظلة شرعية موحدة ومعترف بها عربياً ودولياً. وبسبب صعوبة إعادة توزيع المواقع والمراكز نظراً للتمثيل التاريخي والتقليدي الذي كانت تلعبه الفصائل الأخرى (الشعبية والديمقراطية) أو للامتداد العربي الذي تمثله فصائل أخرى (الجبهة العربية مع العراق ومنظمة الصاعقة مع سورية) استمرت حماس تتحرك خارج الإطار الرسمي لمنظمة التحرير ما أعطاها فرصة في تكوين هيئات ومؤسسات مستقلة وموازية للسلطة في غزة والضفة والقدس.
تل أبيب والانقسام
نمو حماس على هامش السلطة وفي جوار منظمة التحرير تعامل معه الاحتلال بوصفه نواة فلسطينية يمكن لها أن تضعف قيادة عرفات وتربك الوحدة خلال المفاوضات. فالاحتلال لم ينظر إلى حماس بوصفها قوة أيديولوجية تهدد وجود laquo;إسرائيلraquo; بل قرأ نشاطها من زاوية كونه يشكل نواة رديفة يمكن المراهنة عليها لإظهار الانقسام في الصورة الفلسطينية والتذرع به للتهرب من المفاوضات أو للإشارة إلى عدم وجود طرف قابل للسلام.
الانقسام الفلسطيني كان يمثل في منعطفات مختلفة حاجة إسرائيلية لذلك لم تمانع تل أبيب في نمو قوة حماس لأنها تساعد في جانب معين في تشكيل حركة رديفة يمكن استغلال وجودها سياسياً للادعاء بوجود خطر عسكري يهدد أمن الدولة واستقرارها. وهذا الأمر يفسر وجود اتصالات ومراسلات ولقاءات قديمة بين حماس وواشنطن إلى جانب وسطاء من الاتحاد الأوروبي يقومون بلعب دور ساعي البريد لتوضيح ملابسات كانت تنشأ على ضفاف الصراع مع الاحتلال.
الانقسام الفلسطيني كان له وظيفة منذ تسعينات القرن الماضي وهو تطور في محطاته الثلاث لينتقل من التمايز الأيديولوجي إلى الاختلاف السياسي وانتهاء بالانشقاق التنظيمي ليؤكد في الجانب المضاد ذريعة إسرائيلية تريد التهرب من الوعود والالتزامات التي كانت تل أبيب تضطر إلى تقديمها للخدعة وشراء الوقت. وبهذا المعنى يمكن أن يفهم منطق التعايش بين إمارة حماس في غزة والاحتلال فهو من جانب يلبي رغبة في تكوين إطار مستقل عن السلطة (منظمة التحرير) ومن جانب آخر ينعكس سلباً على مسألة المفاوضات ويفقد القوى الأخرى القدرة على تطوير بدائل ميدانية في حال اصطدمت الضغوط بالحائط الإسرائيلي.
ليس كل ما يلمع ذهباً. الانقسام تراه حماس من منظارها الخاص قوة رديفة وبديلة لمنظمة التحرير وهي تراهن على انهيار المفاوضات حتى تقوم بدورها وتأخذ زمام المبادرة نيابة عن سلطة رام الله. بينما الانقسام كما تراه تل أبيب يخدم مصالحها مؤقتاً ويعطيها ذريعة للتنصل من اتفاقاتها تحت غطاء عدم وجود مفاوض فلسطيني يمتلك قوة التمثيل أو يعطي ضمانات لأمن الدولة وحدودها.
اختلاف القراءة بين تل أبيب وحماس لمسألة طبيعة الانقسام ووظيفته ودوره ليس بحاجة إلى ذكاء للتعرف على معالمه ومفاصله. وربما لهذه الأسباب المفهومية تراهن قيادة حماس على تقوية سلطتها في غزة لا بوصفها قوة laquo;صاروخيةraquo; تهدد تل أبيب بالدمار بل لكونها حركة موازية يمكن أن تلعب دور البديل الموضوعي وقت الحاجة وحين تقترب الفرصة.
اللعبة لا شك حساسة وتحتمل الكثير من الانزلاقات والمخاطر لأنها في النهاية ستنعكس كارثة على الشعب الفلسطيني ولن تكون لمصلحة فتح أو حماس مهما ازداد بريق الذهب. فالانقسام يهدد القضية ويجلب إلى الشارع الفلسطيني ويلات الاقتتال تحت يافطات وهمية وشعارات مزيفة.
التفاوض المباشر الذي باشرته السلطة مع حكومة تل أبيب لن يجدي نفعاً لا في نهاية السنة الجارية أو المقبلة مهما راهن عليه أوباما لأن تل أبيب تواصل الاستيطان ولا تفكر بالانسحاب سواء كانت فتح هي القيادة أو حماس في الواجهة. فالمبدأ الإسرائيلي يتركز الآن على عدم الانسحاب.
كذلك الاتصالات السرية والعلنية التي تجريها إمارة حماس في غزة مع أجهزة الولايات المتحدة للاستعطاف والتنبيه والتذكير بموقعها ودورها لا فائدة ترتجى منها سوى إعطاء ذريعة لواشنطن بدعم حليفها الاستراتيجي وتشجيعه في زيادة الضغط على حكومة رام الله وتخويفها وإجبارها على مزيد من التراجع.
المفاوضات الوحيدة المفيدة مرحلياً هي تلك التي بدأت حديثاً في دمشق بهدف إنعاش مسار الوحدة الفلسطينية وإنهاء الانقسام الذي أضعف القضية في مختلف المجالات والحقول. واحتواء الانقسام لا تعزيزه هو الرد الصحيح لإعادة ترتيب المسار الداخلي ودفعه آلياً باتجاه تحولات ميدانية يمكن أن تنشأ قريباً بعد فشل المفاوضات المباشرة
التعليقات