يوسف مكي

الشرق الأوسط الجديد هو المشروع الأمريكي الذي تبناه المحافظون الجدد, وقد اعتبرت ما دعي بالحرب على الإرهاب، واحتلال أفغانستان والعراق، أحجار الركن في هذا المشروع . والآن وقد جرى الإعلان عن إنهاء العمليات القتالية الأمريكية في أرض السواد، تطرح أسئلة ملحة في هذا السياق: ماذا يعني الانسحاب الأمريكي من العراق؟ هل يعني ذلك هزيمة عسكرية وسياسية للمشروع الأمريكي الكوني للقرن الحادي والعشرين، المعبّر عنه بالشرق الأوسط الجديد؟ بمعنى آخر، هل يعتبر الانسحاب في الجانب العملياتي تراجعاً عن المشروع؟

في حديث سابق، قلنا إن الاحتلال لا يستهدف بالضرورة، إبقاء القوات العسكرية في الأراضي المستهدفة . يكفي المحتل، أن ينجز أهدافه الاستراتيجية ويخضع البلد المحتل لسياساته ومصالحه الاقتصادية، وجملة الأهداف الأخرى التي دفعت به للغزو .

وإذا كان هدف الاحتلال الأمريكي للعراق، هو القضاء على قوة العراق العسكرية، وتفتيت وحدته الوطنية، وتأمين تدفق النفط وفقاً للسياسات الأمريكية، وإخراج العراق، من دائرة الصراع العربي مع الصهاينة، فإن المشروع الأمريكي، نجح من دون شك في مصادرة العراق كياناً وهوية . كما نجح في تحييد قوته العسكرية، ولم يعد له حضوره وثقله في صراع العرب مع الكيان الغاصب . ونجح أيضاً، وإن كان ذلك بشكل مؤقت في تسعير الصراعات الطائفية، وتعميم الفوضى، وسيادة قانون الغاب، والقتل على الهوية، وتحويل مدن العراق إلى كانتونات متناحرة . كما نجح في إعادة العراق القوي والمتلاحم إلى العصر الحجري، وبناء ldquo;عراق جديدrdquo;، يستمد حضوره من توافقات الإثنيات والطوائف وليس من علاقات تعاقدية بين مواطنين أحرار، تحكم علاقاتهم المساواة والندية والتكافؤ .

لكن المشروع الأمريكي لشرق أوسط جديد، فشل في التحرك بخطى سريعة، في تطويق المنطقة بأسرها، كما وعدت وأملت إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن . لقد كان المؤمل أن يتم احتلال العراق، ويجري تنفيذ العملية السياسية فيه بسرعة . ثم يتم التحرك بسرعة لإخضاع بقية دول المنطقة . وكان بعض القادة الأمريكيين قد ساورهم الوهم بأن العراقيين سيرفعون الرايات البيضاء ويستقبلونهم بالزغاريد والرياحين . ولكن المقاومة العراقية، تكفلت، منذ لحظة الاحتلال بإيقاظهم من غفلتهم .

اكتشف الأمريكيون أن احتلال العراق لم يكن نزهة، وأن التكاليف البشرية والاقتصادية عالية جداً . لكنهم حين اكتشفوا ذلك، كانوا قد غرقوا فعلاً في أقسى أزمة اقتصادية تعرضوا لها منذ نهاية العشرينات من القرن المنصرم، تركت ظلالها ثقيلة وكئيبة على العالم بأسره . لقد أراد الأمريكيون من احتلال العراق، السيطرة على خزائن الأرض، فوجدوا أن خزينتهم أضحت خاوية، وحينها لم تسعف تداعيات اللحظة، مجموعة المحافظين الجدد للتراجع عن مشروعهم، ووجدوا أنفسهم عاجزين عن فعل أي شيء لتجاوز الكارثة .

فالجيش الأمريكي واحتياطيه جرى استنزافهما بالكامل، حيث نشر الأمريكيون منذ العام 2001 جل قوتهم العسكرية، لتأمين احتلالهم للعراق وأفغانستان، بما يعني أن العمق الأمريكي أصبح مكشوفاً، خاصة أن جميع الوحدات العسكرية التي أرسلت إلى ميادين الحرب، وأعيدت إلى الوطن الأم، أنهكت قواها، ولم تعد قادرة على العمل من دون إعادة تهيئة وتأهيل .

في هذا السياق، أفصح عدد من المراقبين السياسيين، أن الوجود الأمريكي في العراق حد من قدرة الولايات المتحدة على اتخاذ قرارات مهمة في مواضيع إقليمية ودولية مهمة, وأن انسحاباً جزئياً ربما يسهم في تحسين القدرات السياسية الأمريكية، في اتجاهات أخرى .

الانسحاب الأمريكي من العراق، لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن الأمريكيين قد تراجعوا عن مشروعهم للقرن الواحد والعشرين . يكفي أن نطل على ما يجري حالياً في مسارح الحروب والمواجهات، في اليمن والعراق وفلسطين والصومال والسودان وموريتانيا وأفغانستان وباكستان، ليتأكد لنا أن الأمريكيين يصارعون بقوة لتثبيت مشروعهم في تفتيت هذه البلدان وإخضاعها، بما يعني أنهم لم يقرروا بعد التراجع عن مشروع الهيمنة الكوني الذي تبناه المحافظون الجدد، في مطالع هذا القرن .

شعور العراقيين بعمق الكارثة، وبفداحة ما جرى في أرض السواد، وأن الأمريكيين جاءوا إلى العراق، لكي يبقوا فيه طويلاً، ربما يفسر حيادية العراقيين الواضحة، تجاه القرار الأمريكي بالانسحاب العسكري من العراق . المنطقي والمتوقع هو أن يكون الإعلان عن هذا القرار، خطوة مرحباً بها من قبل غالبية العراقيين، اتساقاً مع تطلعات جميع الشعوب في الحرية وحق تقرير المصير . وبالتأكيد فإن تأسيس جيش وطني عراقي قوي، وحكومة نزيهة مقتدرة، بعيدة عن الاصطفاف الطائفي هو مطلب قومي ووطني ملّح . لكن العراقيين لا يثقون بالوعود الأمريكية، بعد أن جربوا مرارتها لأكثر من عقدين، من عمر الحصار والاحتلال .

إن ما جرى في مدينة الفلوجة، من خرق لإعلان الإدارة الأمريكية عن توقف الجيش الأمريكي عن المشاركة في العمليات العسكرية داخل العراق يثير قلق العراقيين، ويجعلهم لا يثقون بالوعود الأمريكية بتوقف جيوشها عن القتال في الساحة العراقية .

إضافة إلى ذلك، هناك ارتباك وتناقض واضحان في التصريحات الأمريكية . فمن جهة، تتكرر الأقوال عن برامج انسحاب شامل للقوات الأمريكية من العراق . ومن جهة أخرى، يتم الكشف عن إقامة سبع قواعد عسكرية أمريكية دائمة في العراق، ومدها بكافة التجهيزات . والتناقض هنا واضح وصريح بين نية الانسحاب الشامل وقرار الأمريكيين البقاء طويلاً في العراق . وهناك معلومات تؤكد أن ldquo;البنتاغونrdquo; أتمت بناء نظام اتصالات عسكرية مستديمة في العراق . هذه الشبكة تسمى ldquo;نظام ميكروويف العراق المركزي-CIMSrdquo; ونفذتها شركة ldquo;غالاكسي ساينتفك كوربوريشنrdquo; . وهذه الشبكة الدائمة تعني أنه حتى لو انسحبت القوات الأمريكية فإن أعداداً كبيرة منها ستبقى في قواعدها التي أحصاها موقع ldquo;غلوبل سيكيوريتيrdquo; العسكري الأمني ب12 قاعدة دائمة في كافة أنحاء العراق, وكان الكونجرس الأمريكي قد خصص مبلغ 236 مليون دولار لبناء قاعدة عسكرية دائمة جديدة أخرى .

إن ذلك يدفعنا إلى الاعتقاد بأن الانسحاب من العراق هو خطوة تكتيكية، وأن الانسحاب لن يكون نهائياً وكاملاً، وذلك يتسق مع ما أعلنته الإدارة الأمريكية من أنها سوف تستعيض عن وجود هذه القوات بالتعاقد مع شركات أمنية أمريكية، مثل ldquo;بلاك ووترrdquo;، تضطلع تحت مسميات أخرى بنفس الدور الذي اضطلعت به القوات الأمريكية المنسحبة . وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن الاتفاقية الموقعة بين الحكومة العراقية والإدارة الأمريكية، تجيز بقاء قوات أمريكية في العراق، فإن الانسحاب العسكري لن يكون نهائياً .

قرار الانسحاب على هذا الأساس، يبدو تكتيكياً، ومفهوماً جداً، في ظل المعطيات والظروف الإقليمية والدولية التي تمر بها المنطقة، وبخاصة تداعيات الملف الإيراني . إنه يأتي متزامناً مع تصعيد أمريكي للغة الهجوم ضد إيران، والحديث عن احتمالات مواجهة عسكرية جديدة في المنطقة .

ويأتي الحديث عن عجز القوات العراقية، من التصدي لأي تحديات خارجية، وهو ما أشار إليه الجنرال جورج دبليو كيسي ليؤكد المسار التكتيكي لهذا الانسحاب . فقد ذكر الجنرال المذكور أن ldquo;هناك كتيبة عراقية واحدة فقط، تستطيع القتال دون مساعدة من الولايات المتحدة، وأن العراق بحاجة إلى 40 كتيبة إضافية على الأقل كي يستطيع قيادة عمليات مكافحة المقاومة، ليس بمفرده ولكن بمساعدة أمريكية . كما يأتي متسقاً تماماً مع تصريحات قائد قوات الاحتلال الأمريكي، الجنرال أوديرنو الذي أعلن مع عدد من زملائه أن قواته قد تبقى لسنوات حتى تطمئن إلى قدرة القوات العراقية على الإمساك بزمام الأمور .

من المؤكد أن انسحاباً أمريكياً جزئياً للقوات العسكرية سيتيح للإدارة الأمريكية هامشاً أكبر من المناورة في ما يتعلق بمواجهة التحديات المعلنة مع إيران وكوريا الشمالية، وإسناد الكيان الصهيوني في مخططاته ضد سوريا ولبنان على الصعيد الدولي، وسيضع المقاومة العراقية أمام امتحان عسير وصعب، تجاه مواجهة احتمالات التدخل العسكري الإيراني المباشر في شؤون العراق .

ويبقى أن نؤكد أن مستقبل العراق، شأن يخص العراقيين وحدهم بالدرجة الأولى، لكنه يمس في الصميم خاصرة الأمن القومي العربي . والدفاع عن عروبة العراق وحريته واستقلاله ينبغي أن يكون مسؤولية العراقيين والعرب . ومن غير شك، فإن غياب هذا البلد العريق عن منظومة العمل العربي المشترك يترك فراغاً أمنياً وسياسياً كبيراً، ويعني تآكلاً لمنظومة الأمن العربي، وهو أمر ينبغي أن يتفاداه المخلصون من أمة العرب .