مأمون فندي


كل شيء في مصر يصب في تعظيم المكانة الاجتماعية لأفراد يبدو أنهم يلهثون وراء أي شيء يمنحهم صفة التفوق على جيرانهم وأقرانهم ولو كان ذلك بالموت. يقولون في مصر: laquo;اللي ما مامتش في الأهرام ما ماتشraquo;، أي من لم يكن له نعي طويل وعريض في جريدة الأهرام لا يحسب من ضمن عداد الموتى. ربما لأن صفحة الوفيات هي أقرب صفحة إلى الصدق في الصحافة المصرية، أو ربما لأن النعي ومكان الجنازة أصبحا صفة أساسية من صفات التفوق الاجتماعي في بلد فقد معايير التفوق الأخرى.

لفت نظري في الآونة الأخيرة، نقل مكان التعازي الخاص بالنخبة المصرية أو من يريدون أن يكونوا ضمن النخبة من مسجد عمر مكرم في وسط البلد إلى مسجد آل رشدان في مصر الجديدة بالقرب من بيت الرئيس. الهدف واضح، هو أن يصادف خروج laquo;الريسraquo; أو أحد ابنيه للذهاب إلى مكاتبهم مع توقيت الجنازة، المهم أن يكتب في النعي: حضر الجنازة من هم من أهل الرئيس. ولولا بعد المسافة والملامة، لأخذ بعض السوقة في مصر من الأغنياء الجدد جثث آبائهم وأمهاتهم إلى شرم الشيخ كي يحضر الرئيس الصلاة على الميت.

ولغير المصريين مجلس العزاء في القاهرة ليس كمجلس العزاء في أي مكان آخر في الدنيا. فقد قادتني قدماي ذات مرة لتقديم العزاء في المسجد المذكور، فلم أر جنازة، بل رأيت ما يشبه الأفراح أو العزائم عندنا، ناس بتسلم على بعضها بالأحضان، وبتتكلم في السياسة والفن، وموبايلات بترن، ويرد أحدهم: laquo;أهلا يا باشا، إحنا في مسجد آل رشدان، إنتو جايين علشان نروح بعد كده الفورسيزون نتعشىraquo;. شيء غريب أن علية القوم (كما يوصفون) لا يقدرون للموت هيبته ولكنهم مغرمون بأمور الدنيا إلى الحد الذي تحس فيه بالخجل أنك أتيت إلى هذا المكان.

سألني أحدهم: كيف شكل العزاء في أميركا وبريطانيا؟ قلت له إنني أقف مصدوما أمام المشهد، فهذا ليس بالعزاء المصري الذي أعرفه، ولا هو بالأوروبي الذي يضفي على الموت وقارا، ولا الأميركي الذي تحس فيه بالحزن وألم الفقدان فعلا. هذا خليط عجيب من السوقية الثقافية التي تشبه عربة الكشري الملونة على ناصية أحد الشوارع الشعبية. فكيف تحول بعض المصريين من شعب له أخلاق وقيم واضحة في الحزن والفرح، إلى شعب لا طعم له ولا رائحة، وكيف أصبح موت أعزائهم جسرا اجتماعيا للوصول إلى مطامعهم؟

في الصعيد ينصب العزاء إلى جوار بيت الميت أو في داخله وترى الفجيعة صارخة في طين البيوت وسعف النخيل وسواد العيون، ولكن الأمر ليس نفسه في جميع مصر، فقد يموت رجل في الجيزة، ومع ذلك يتقبل أهله العزاء في مسجد آل رشدان، والهدف كما يعرف الجميع، أن يتعثر الرئيس أو أحد ابنيه في طريقهم بالجنازة فيدخلوا المسجد وبعدها يخرج صاحب العزاء على الفضائيات ليشكر الرئيس وابنيه على تقديم واجب العزاء!

من المفهوم أن يكون عزاء شيخ الأزهر في عمر مكرم، فهو شيخ الأزهر، أما أن يقام عزاء والدة الفنان الفلاني، أو شقيق لاعب الكرة العلاني في عمر مكرم، فهو أمر غريب، فهل المتوفى شخصية وطنية كبيرة تستوجب هذا الاستقطاب الإعلامي، أم أنها مجرد محاولة للتباهي عن طريق الجثث؟

الموت بالبنط العريض على صفحات الصحف وبالبرواز الأسود إياه، ظاهرة مصرية بامتياز، وبدأت عدواها تنتشر في معظم بلدان العالم العربي. هل المتاجرة بالموتى هي امتداد لما تفعله جماعة الآثار من عرض لجثث أجدادنا المصريين القدامى في ساحات الميادين العالمية في الغرب من أجل الشهرة الفردية تحت مسمى الترويج للسياحة؟ وهل اهتدى العقل المصري، ونتيجة لتكرار عرض جثة توت عنخ آمون وغيره من ملوك الفراعنة، أن يسلك السلوك نفسه فيعرض جثة أبيه (بشكل رمزي) من خلاك إقامة العزاء لوالده إلى جوار بيت الرئيس؟ هذه ظاهرة تحتاج حقا إلى دراسة، لأنها حالة مرضية خطيرة لم أر مثلها في أي مكان في العالم.