علي محمد فخرو

للفيلسوف البريطاني إسايَهْ برلين قول مؤدّاه أن هناك فجوة عميقة بين أولئك الذين يحكمون على الأمور من نظرة ورؤية مركزية، وأولئك الذين يتعاملون مع كل أمر، انطلاقاً من رؤى منفصلة عن بعضها بعضاً ومرتبطة مع ظروف كل أمر يخصه . فالصنف الأول يشبه القنفذ الذي يرمز إلى الهدوء في مواجهة التحديات، وبالتالي استعمال كل ما لديه من إمكانات جسدية للتغلب على كل التحديات، أما الصنف الثاني فيشبهه الفيلسوف بالثعلب الذي يستعمل الحيل والمناورات لمواجهة التحديات، ففي أي الخانتين تقع طريقة رؤية مجلس التعاون للأمور؟

هذا سؤال متمم للسؤال الذي طرحناه في مقال الأسبوع الماضي، عندما تساءلنا عن مدى وجود رؤية مشتركة لدى دول مجلس التعاون بالنسبة لقضايا السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة .

سؤالنا اليوم سيكون أكثر تحديداً ويتعامل مع أكبر وأخطر قضايا الأمة العربية: قضية فلسطين . من الواضح أن تعامل المجلس مع هذا الموضوع هو تعامل الثعلب، إذ لكل حالة لبوسها، ولكل جهة معنية خطابها الخاص بها .

فمماشاة السلطة الفلسطينية، تحكم بعضاً من مواقف مجلس التعاون، ومساعدة الرئيس الأمريكي وحزبه أمام اللوبي الصهيوني يحكم بعض المواقف، وعدم إحراج هذه الدولة العربية أو تلك مع حليفها الأمريكي أو مع التزامات معاهدتها، يحكم مواقف طرف آخر، ومدى قوة العلاقة الإيرانية مع هذه المقاومة أو تلك يهيمن على بعض المواقف .

هذه الأحكام المنفصلة عن بعضها تتمّ مع أنها تناقض الادعاء والخطابين الرئيسين اللذين تقدمهما حكومات الدول لشعوبها، والقائلين إن القضية الفلسطينية هي قضية كل العرب وكل المسلمين، وإن التفريط في القدس هو تفريط في دين الإسلام، فإذا كانت قضية سرقة أرض عربية وإسلامية من قبل قوى استعمارية صهيونية مزوّرة للتاريخ والواقع هي بالمنطق والتاريخ والدين والأخوة العروبية والمصالح، قضية تمسنا حاضراً ومستقبلاً أفلا يستوجب كل ذلك رؤية مركزية تحكم التعامل مع هذا الموضوع في جهات الدنيا الأربع وفي كل الأوقات؟

لو وجدت الرؤية المركزية هذه لأدركت دول المجلس أنه حتى ولو وقع الفلسطينيون اتفاق سلام مع الكيان الصهيوني، فإن قياداته قد اعتمدت سياسات مستقبلية ستطالهم في المستقبل، فهناك تصريحات بأن الكيان الصهيوني لن يقبل بوجود قواعد عسكرية قريبة من حدوده، إذ اعتبر قادته أن قوة أو حجم تسليح تلك القواعد قد يهدد أمن الكيان في المستقبل . وقد ذكروا بالتحديد قاعدة تبوك السعودية وضرورة تقليص إمكاناتها الحربية . وبالطبع فإن ذلك سيشمل الاعتراض على كل صفقات التسلح الخليجية مع دول الغرب والشرق أو تحجيمها يما يرضي هذا العدو، وكما يجرهم اليوم، بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة عبر أمريكا ودول الغرب، باسم إثارة الخوف والهلع، لدخول معاركه مع بعض دول الإقليم العربي - الإسلامي، فإنه لن يكف في المستقبل عن التدخل في كل شؤونهم الداخلية، باسم معاداة السامية ولن يسمح قط لا لدين ولا لثقافة ولا لإعلام أن يتصدى لمشروعه المهيمن الاستيطاني الشيطاني .

هذه الأمثلة لإمكانات الصدام مع هذا المشروع الاستعماري، المنطلق من فلسطين نحو كل الأرض العربية والإسلامية، أمثلة من بين مئات الأمثلة الأخرى، هي التي تستصرخ وجوب وجود رؤية مركزية لقضايا مجلس التعاون الموجودة والممكنة مع عالم معقَّد وخطر يحيط بنا .

هناك قول مأثور بأنه حيث ينعدم وجود رؤية مركزية ثاقبة فإن الشعوب تندثر . في حالتنا نحن العرب والمسلمين مع الأحلام الصهيونية المجنونة لن تندثر الشعوب فقط، بل الحضارة التي أسس لها الإسلام .

من هنا نأمل ألا تستمر قيادات مجلس التعاون بالاكتفاء بمواقف سياسية إرضائية مؤقتة، بل عليها أن تنتقل إلى تكوين رؤية عميقة مفصلية لمجابهة أكبر وأخطر مشروع اجتثاثي عرفته أرض العرب وأرض الإسلام .