خلف الحربي

كان اختيار مدينة جدة لعقد دورة الحوار الوطني المتعلقة بالقبلية والمناطقية اختيارا في محله تماما، لأن جدة مدينة تشربت التعدد الثقافي واعتادت على الأطياف البشرية المتنوعة، ولا أعلم هل انتهت جلسات الحوار الوطني قبل بداية حفلة الغرق الموسمية لمدينة جدة أم خلالها، ولكن في كل الأحوال فإن الحافلة التي تقل المشاركين إلى مكان إقامتهم سوف تتوقف في منتصف الطريق بسبب الأمطار الغزيرة.
ركاب الحافلة الذين انتهوا للتو من نقد ثقافة القبيلة ودعوا إلى تعزيز قيم الوحدة الوطنية، محقون في أطروحاتهم هذه فالعودة إلى الوراء لا تنتج دولة حديثة، ولكن في هذه اللحظة المبلولة تبدو ثقافة القبيلة أكثر انسجاما مع تعليمات السلامة العامة لأنها ndash; والحق يقال - حين كانت تجيد التعامل مع الأمطار وتتجنب أخطارها بمهارة، واليوم حين دخل البدو والمزارعون والساحليون والتجار في نسيج المدينة الحديثة العملاقة أصبحوا جميعا تحت رحمة المقاول، وأغلب المقاولين لا ينتمون إلى قبيلة أو منطقة أو إقليم معين، بل ينتمون إلى حساباتهم البنكية ويعتقدون أنهم ساهموا في الوحدة الوطنية من خلال إغراق جميع أطياف المجتمع في الشارع!.
في الحافلة شيخ يرى أن السبب الرئيسي لغرق شوارع جدة هو منتدى خديجة بنت خويلد وكاشيرات السوبرماركت، وفيها مثقف يرى أن التخلف الفكري وما يصاحبه من أطروحات متشددة هي التي أعطبت عجلة التنمية، وفيها امرأة ترى أن محاصرة بنات جنسها وتعطيل قدراتهن على خدمة الوطن هو الذي أغلق الشوارع فكل ما يحدث هو صناعة رجالية مائة في المائة، وفيها إداري يرى بأن التعصب القبلي والمناطقي والطائفي هو السبب حيث تم حرمان الكفاءات من المراكز التي تستحقها فضاعت الإدارة ولعب المقاولون في منتصف الساحة، وفيها محام يرى أن التأخر في تطوير القضاء وكتابة العدل سوف يؤدي إلى ما هو أكثر من ذلك، وفيها موظف علاقات عامة على بند الأجور يرى أن هضم حقوق الموظفين وتعليق مصائرهم يقود إلى مثل هذا الأداء، أما سائق الحافلة فيرى أن صاحب السيارة الصغيرة التي أمامه هو السبب في غرق الحافلة لأنه تباطأ في السير في اللحظة الخطأ لذلك قطع الحوار الساخن خلفه وهو يقول: (صدقوني ..الأجانب هم السبب)!.
خارج الحافلة سيارة ليموزين غارقة ويبدو في مقعدها الخلفي شابة تشعر بالذعر، الشيخ ndash; داخل الحافلة - يقول إنها أكبر دليل على وجاهة قرار منع المرأة من قيادة السيارة لأنها لن تستطيع أن تتعامل مع شوارعنا التي تغرق في شبر ماء، والمثقف يقول إن وجودها مع السائق الوافد في هذه اللحظة الصعبة هو خلوة قاتلة.
ومع مرور الوقت لم يتوحد ركاب الحافلة لمواجهة المشكلة التي يمرون بها، ربما لأنهم يعرفون بأن نقاشاتهم الموضوعية داخل الحافلة لن تشفط المطر الذي يملأ الطريق، لذلك قرروا تمضية الوقت بتوزيع الشتائم والاتهامات ضد البعض: (إرهابك ..عمالتك ..قبيلتك ..منطقتك ..أمك ..أبوك)، وبينما يزداد الحوار سخونة يبقى المقاول ملتزما بأدب الحوار وحريصا على الوحدة الوطنية لأنه ببساطة خارج الحافلة ..حيث يستعد لسهرة رأس السنة في باريس!.