أحمد يوسف أحمد

لا أدري إن كان السؤال الذي اتخذ عنواناً لهذا المقال صحيحاً، أم أن السؤال الصحيح ينبغي أن يكون ماذا يراد بنا نحن العرب وبعروبتنا وإسلامنا؟ لم تغب أحداث كنيسة النجاة وسط بغداد عن الذاكرة بعد، ولم تجف دماء الضحايا الأبرياء الذين سقطوا منذ أيام من جراء هجوم قامت به جماعة مسلحة على أربعة عشر منزلاً للمسيحيين في بغداد. فقد تواصل المخطط في أكبر هجوم من نوعه على أقباط مصر في أول أيام العام الجديد. واستهدف الهجوم كنيسة القديسين قرب نهاية قداس كان يقام داخلها في مدينة الإسكندرية التي ينطق تاريخها بالتنوع والتسامح حتى مع الأجانب الذين استوطنوا فيها إلى حين. ووقع في اليوم نفسه تطور بالغ الدلالة في قطاع غزة ذو صلة بما وقع في كل من العراق ومصر مؤخراً على نحو ما سنرى.


وما يشغلنا على نحو أساسي هو أن ثمة مخططاً واضحاً موجهاً ضد المسيحيين العرب بصفة عامة بهدف إفراغ وطننا العربي منهم في تطبيق بالغ البشاعة لمبدأ التطهير العرقي، وإن تم في حالتنا وفق خطوط دينية. فماذا يريد الإرهابيون العرب وغير العرب من مخططهم هذا يا ترى؟ أتراهم يهدفون إلى رحيل المسيحيين العرب عن أوطانهم لتعزز بهذا الصورة السلبية عن العرب والمسلمين الذين لا يقبلون حقيقة التنوع ويرفضون مبدأ التسامح مع الآخر وقبوله؟ والأهم من صورتنا لدى الآخرين أن هؤلاء الإرهابيين يحاولون أن يمحوا أعز ما في حضارتنا العربية- الإسلامية المزدهرة التي شارك في بنائها كثيرون من مسيحيي العرب ويهودهم، والتي استلهمت حرية العقيدة من القرآن الكريم ومارستها فعلاً، لا قولاً فحسب. غير أن الإرهاب لن يقف عند حد إجبار المسيحيين العرب على الرحيل عن أوطانهم -وقد بدأت أعدادهم في التقلص بالفعل- ولكنه سيمتد إلى المسلمين أنفسهم الذين يناصبون هذا الإرهاب العداء، أو يختلفون مع الإرهابيين في معتقداتهم ومذاهبهم.
ومنذ وقع الغزو الأميركي للعراق في 2003 بدأت الهجمات على المسيحيين العراقيين في إطار الفوضى العامة التي حلت بالعراق، غير أن هذه الهجمات اتخذت منحى خطيراً منذ حادثة احتجاز الرهائن في كنيسة النجاة وسط بغداد في نوفمبر الماضي على يد مسلحين من quot;القاعدةquot; فجروا أنفسهم خلال اقتحام قوات الأمن العراقية الكنيسة مخلفين وراءهم أكثر من مئة قتيل وجريح. وفي هذا السياق أطلق الإرهابيون صراحة تهديداتهم لـquot;صليبييquot; مصر وتوعدوهم بملاحقتهم في كنائسهم، وعلى رغم أن هذا التهديد قد لقي استنكاراً وإدانة واضحين في مصر إلا أنه لم يؤدِّ إلى تغير نوعي في التحسب لهذه التهديدات. وفي الأيام الأخيرة من العام المنصرم (29 و 30 ديسمبر 2010) عاود الإرهابيون هجماتهم على مسيحيي العراق بمداهمة أربعة عشر منزلاً يقطنها مسيحيون في أحياء العامرية والغدير والدورة في بغداد، فخلفوا وراءهم وفقاً للمصادر الأمنية الرسمية العراقية قتيلين وسبعة من الجرحى في إصرار واضح على مواصلة المخطط، وكدليل أوضح على أن هذه الخلايا الإرهابية ما زالت بعيدة عن متناول الحكومة العراقية.

ثم جاءت الصدمة الكبرى في مصر حيث وقع في أول أيام العام الجديد الهجوم الإرهابي الخسيس على عدد من أقباط مصر أثناء خروجهم قرب انتهاء قداس كانت الكنيسة تقيمه. وسقط من جراء الهجوم وفقاً للإحصاءات المتاحة حتى الآن اثنان وعشرون قتيلاً من المواطنين المصريين الأقباط راحوا ضحية للحادث المشؤوم، وأصيب حوالي مئة من الأقباط والمسلمين. وقد قيل إن الحادث قد نفذ بواسطة إرهابي انتحاري يحمل حزاماً ناسفاً، وقيل أيضاً إن التنفيذ كان عن طريق سيارة مفخخة. وقيل كذلك إن بصمات quot;القاعدةquot; واضحة فيه خاصة بعد تهديدها الصريح لـquot;صليبييquot; مصر وكنائسهم في أعقاب أحداث كنيسة النجاة، فيما رأى آخرون أنه نفذ عن طريق خلايا إرهابية محلية. واللافت في هذه الحادثة المروعة أن إرهابيي quot;القاعدةquot; سبق لهم أن أطلقوا تهديداتهم لأقباط مصر وكنائسهم كما سبقت الإشارة، لكن النقلة النوعية المطلوبة في مواجهة هذه الموجة الإرهابية لم تتم، وهو تقصير لاشك فيه.

لقد لقيت الحادثة استنكاراً وإدانة حقيقيين على المستويين الرسمي والشعبي، ومن المأمول أن تتغير السياسات المتبعة لمواجهة خطر الإرهاب في مصر في الوقت الراهن، غير أن أفضل ما كشفت عنه الأحداث غضب حقيقي من قبل الجماهير المسلمة العادية في مصر التي كان واضحاً أنها قد أصيبت بصدمة حقيقية ربما على نحو لم يحدث قبلاً، ولعل السبب في هذا يرجع إلى مستوى العنف الذي ظهر في الحادثة الأخيرة وما أدى إليه من زيادة مروعة وغير مسبوقة في عدد الضحايا الأمر الذي هز ضمائر الجميع، وأشعرهم بخوف حقيقي على مستقبل الوطن إن حافظت هذه الأعمال على وتيرتها أو شهدت مزيداً من التصعيد، بل وأعتقد أن المتشددين الإسلاميين قد وجدوا أنفسهم على نحو طبيعي ينضوون تحت لواء الاستنكار الصادق والإدانة الحاسمة لهذه الحادثة لتناقضها الصارخ مع تعاليم الإسلام بحيث لا يبقى سعيداً بهذه الحادثة سوى الإرهابيين. ويفترض بطبيعة الحال أن تؤدي هذه الحادثة إلى النقلة النوعية المنتظرة في السياسات الرسمية والمواقف الشعبية تجاه الإرهاب لكننا مضطرون للانتظار حتى تتبين معالم السياسة والمواقف الجديدة من رحم التفاعلات الجارية، أو يظهر كالعادة أن ثمة تفضيلاً لسياسات التهدئة وإمكانات احتواء ما وقع وآثاره على سياسات المواجهة الجذرية.

في نفس يوم الحادثة النكراء في مصر وقع في غزة تطور ينبغي ألا يمر مرور الكرام لأنه ذو صلة واضحة بما نحن فيه الآن، فقد أصدر تنظيم quot;قاعدة الجهاد من أرض الرباطquot; (فلسطين) في قطاع غزة بياناً ينتقد فيه حكماً بالإعدام أصدرته مؤخراً محكمة في القطاع بحق مواطن غزي مسلم قتل صديقه المسيحي. واستنكر التنظيم في بيانه الحكم على أساس أن الجرم المنسوب للمحكوم عليه هو قتل quot;صليبيquot; فيما أن هؤلاء الصليبيين -وفقاً للتنظيم- quot;خرجوا من عقد الذمة مع المسلمين، واستناداً إلى قول الرسول عليه الصلاة والسلام: لا يقتل مسلم بكافرquot;. وكان الشاب الفلسطيني المسلم المحكوم عليه بالإعدام قد قتل صديقه المسيحي بدافع السرقة، وأصابت الجريمة آنذاك الفلسطينيين بالصدمة لما تفضي إليه من تخريب للتسامح وللعلاقات الأخوية بين المسلمين والمسيحيين في فلسطين عبر العصور، وحذر البيان حكومة quot;حماسquot; المقالة في غزة من تنفيذ أي حكم بحق مسلم إرضاءً للكافرين، لأن ذلك سيسبب أوخم العواقب على quot;الطائفة الصليبيةquot;.

وهكذا فإن تنظيم quot;القاعدةquot; يفضل الحفاظ على حياة مسلم قاتل على العمل بشريعة الإسلام لمجرد أن الضحية مسيحي، علماً بأن المحكمة التي أصدرت الحكم تخضع لنظام quot;إسلاميquot; يراه البعض -أو حتى كثيرون- خارج قطاع غزة نظاماً إسلاميّاً متشدداً فيما يراه تنظيم quot;القاعدةquot; نظاماً خارجاً عن صحيح الإسلام. ولعل هذه الفتوى بخصوص عدم جواز الحكم بالإعدام على مسلم قتل quot;صليبيّاًquot; تظهر الطريقة التي يفهم بها الإرهابيون الإسلام، وتدفعنا إلى قلب المواجهة مع هذه المفاهيم الخاطئة والخطيرة حفاظاً على الأمة وتماسكها، وعلى ذلك النسيج الديني والعرقي المتنوع الذي يفترض أن نزهو به لا أن نعمل على تصفيته تحت تأثير أفكار مغلوطة وأفعال نكراء.