عبدالرحمن الراشد


الذي قد لا يدركه البعض أن الجنوب السوداني نظريا انفصل منذ 5 سنوات عندما وقَّع الحزب الحاكم في الخرطوم اتفاقية نيفاشا.. فقد نصت الاتفاقية، بشكل صريح، على سؤال سكان الجنوب إن كانوا يريدون حكم الخرطوم أم الانفصال. الإجابة كانت معروفة سلفا مثل سؤال الفلسطينيين إن كانوا يريدون الاستقلال أم إقامة دولتهم.. فقد مات آلاف الجنوبيين في حرب مع قوات الخرطوم، ومن المؤكد أن الأغلبية ستختار الانفصال مهما كانت الخسائر. وهانحن أمام لحظة الحقيقة المؤلمة؛ حيث سيخسر السودان نصفه، والله وحده يعلم ما هي تبعات قيام دولة جنوبية، وما هي انعكاسات انكماش السودان في شماله، الذي عاد للاحتقان حتى قبل الاستفتاء.
ليس هذا وقت اللوم؛ لأننا نعرف جيدا أنه كان بإمكان السودان أن يظل موحدا مع جنوبه، وآمنا في دارفور، لو أحسنت القيادة إدارة النزاعات. نعرف أنه لا فائدة من البكاء على لبن مسكوب، الأهم اليوم أن يكون طلاقا بإحسان ويتعايش الجانبان بأقل قدر ممكن من الخلافات. أيضا لا أعتقد أنه الوقت الملائم للأصوات التي تريد فتح معارك في الخرطوم على هامش الانفصال.. فالبلاد لا تحتمل هذه الأوجاع كلها في وقت واحد، على الرغم من قناعتي بأن مطالب المعارضة السودانية لا تقل شرعية عن اتفاقية نيفاشا وفصل الجنوب.
السودان والسودانيون في حاجة للوحدة للسير في جنازة الانفصال، ولو كان لدى النظام أي إحساس بالمسؤولية، بل لو كان لديه شيء من غريزة البقاء، لبادر إلى طرح مشروع مصالحة حقيقية يعيد فيها الوضع إلى ما قبل انقلابه قبل 20 عاما، ويعيد القرار للمواطن السوداني يختار من يريد. أعرف أن هذه ليست من سمات الحزب الحاكم الذي يتبجح بأنه أخذ الحكم بقوة السلاح وجلس على كرسي الحكم أيضا بالوسيلة نفسها، لكن أقول: عساه يدرك أنه استنفد وقته، ونفدت وعوده، ولم يبق له إلا أن يكون حكيما في كيفية البقاء بالمشاركة.
لقد رفض صدام حسين مطالب الأكراد بالاعتراف بحقوقهم البسيطة، وأمعن في إيذائهم، وعندما انشق الشمال العراقي الكردي، عام 1991، عجز صدام أن يقرأ الوضع الجديد فأوغل في اضطهاد البقية التي ظلت تحت سلطته لينتهي نهاية مأساوية. من صالح السودان والمجتمع الدولي أن يعم سلام في النصف الشمالي، السودان القديم. وهذا يتطلب من القوى السياسية المعارضة المتململة الغاضبة من نظام البشير ألا تنجرف وراء عواطفها لتغيير الوضع القائم من خلال الفوضى. في الوقت ذاته من صالح حكومة البشير إدراك ما يدور أمامها وخلفها والتعامل مع الوضع الجديد بعقلانية أيضا، فالمعارضة أصبحت أقوى وأوسع من أي زمن مضى، والنظام صار في أضعف أيامه