عصمت الموسوي
عدة افراد مصريين ومصريات من الاقباط المسيحيين تقاطعت حياتي بحياتهم في مرحلة ما، فعلق بذاكرتي الكثير منها واستعدتها بحزن والم وانا اتابع وقائع الانفجارالارهابي الذي وقع امام كنيسة القديسين بالاسكندرية عشية رأس السنة الميلادية الجديدة، ووجدتني اعود بذاكرتي الى اولئك المصريين الطيبين الجميلين والكرماء الذين زرعتهم الاقدار في طريقي.
في مدرسة الثانوية بالمنامة دخلت علينا معلمة شابة سمراء ولطيفة وصغيرة القد، عرفت نفسها بالقول laquo;انا معلمتكم الجديدة في الفيزياء، مصرية من اسوان واسمي آلنraquo;، ما اثار استغرابنا هو الاسم، فنحن نعرف ان اسماء المصريات هي فاتن وسعاد وليلى، وكنا نألف تلك الاسماء ونحبها منذ زمان طويل فقد شكلت الروايات والافلام والمسلسلات وجداننا، كانت معلماتنا المصريات بأناقتهن وجمالهن ولهجتهن المحببة الآسرة مصدر الهام لنا، قارنوا ذلك مع معلمات هذا الزمن، بعضهن يذهب الى المدرسة بحجاب وعباية تخفي قميص النوم! ولم نشأ ان نسأل آلن عن اسمها الاجنبي الا عندما قاربت السنة على الانتهاء وتصالحنا مع آلن بعد ان اتعبناها طوال العام ،كان فصلنا المدرسي واحدا من أنشط الفصول، وكانت آلن حديثة عهد بالتدريس واول تجربة لها في الغربة، وكانت الطالبات يبتكرن الاساليب العجيبة لتطفيشها وتضييع حصتها واختبار اقصى حدود لصبرها وتحملها، تطرق آلن ساكتة وتتركنا في فوضانا وتخفض عينيها، وفجأة تنزل دموعها، عندها فقط يهدأ الفصل تماما وتبدأ الحصة، لقد استعانت هذه المعلمة الذكية بالدموع للسيطرة على الفصل وقد فعلتها عدة مرات، لا استطيع ان اصف لكم مشهد الفصل اذا نزلت دموع المعلمة ...وجوم واحساس غامر بالذنب والندم.
وفي مكتب الاسوشيتد برس تقاطعت حياتي الصحفية مع الصحافية الرائعة نبيلة مجلي، نبيلة وهبت عمرها للعمل الصحفي، تعلمت على يديها الصياغة الخبرية وكتابة التقارير المتقنة والدقيقة، راهبة في العمل وفي الحياة وهبت عمرها للصحافة ولم تتزوج، استاذة ماهرة تتلمذ على يديها العديد من الصحافيين والصحافيات البحرينيات، كانت الساعد الايمن للمرحوم علي محمود مدير المكتب في اعوام الثمانينات الى منتصف التسعينات، آزرته في اوج مجده وتألقه الصحفي وواصلت معه مشوار المرض لاحقا، كان بيتها في العدلية مكانا لنا جميعا في اعياد الكريسماس ورأس السنة الميلادية، لم اعرف ان نبيلة قبطية الا عندما انجبت ابني الاول، هاتفتني قائلة laquo; لقد ذهبت الى الكنيسة اليوم واوقدت شمعة لمولودك البكرraquo;.
ثم تعرفت لاحقا على المهندس المعماري المبدع الاستاذ نادر بطرس زوج زميلتنا هالة كمال الدين laquo;الصحفية بأخبار الخليجraquo; نادر صمم بيتي واشرف عليه ووضع عليه لمساته الجميلة والبديعة في الهندسة المعمارية، اتذكر جملة نادر دوما التي تعلمتها منه ونحن نتناقش ونتشارك في التصميم، هندسة البيت هي انعكاس للحياة الاجتماعية لافرادها وكل ركن فيه يشي بذلك laquo;انني اتذكر نادر كل يوم وفي كل زاوية من زوايا هذا البيت الذي حافظ على متانته وتماسكه ويكاد يكون خاليا من اي عيب او خطأ هندسي.
لا يختلف المصريون المسيحيون الاقباط في نماذجهم الجميلة والكريمة والخلاقة عن اخوانهم المسلمين، انا شخصيا احببت الاقباط من خلال هذه الشخصيات، تحضر ورقي وعلم وذوق وفن وتهذيب وجمال، دخلنا بيوتهم وزاملناهم وتعلمنا على ايديهم، انني لا املك اليوم ازاء ما يتعرض له كل مسيحي الشرق سوى التأكيد على حقيقة واحدة هي ان المسيحية العربية كانت ولا تزال اضافة عالية القيمة في المجتمع العربي وعنصرا مكرسا ومعززا للهوية والقومية العربية، وان استهدافها لا يخدم سوى مشروع توهين هذه الامة وتفتيتها وتقسيمها وضرب مكوناتها وتهيئتها لما يسمى بالشرق الاوسط الجديد، الشرق الذي تتصارع على ارضه الحضارات والاديان فيسهل قضمه واحتلاله وتطويعه لمشاريع التدخل الخارجية والتطبيع الصهيونية، فهل نفزع لتدارك ذلك؟
إلى الأعلى
التعليقات