ياسر الزعاترة

منذ سنوات طويلة ونحن نكتب عن عبثية التجربة البرلمانية للحركات الإسلامية بتلك الطريقة التي رتبتها الأنظمة، وكتبنا ذات مرة مقالا طويلا كان بعنوان laquo;الحركات الإسلامية بين السلاح والانبطاحraquo;، يعالج هذه المسألة التي أتعبت تلك الحركات التي ضاعت في معارك السلاح والعنف، بينما لم تفلح في تجربة المشاركة السياسية التي لم تزد الأوضاع إلا بؤسا على الصعيد العام، فيما لم تزد حضورها إلا تهميشا بسبب قدرة الأنظمة على استيعاب موجة الدمقرطة والإصلاح على نحو أفقدها أي مضمون حقيقي.
كان البديل الذي أشرنا إليه ومعنا كثيرون هو النضال السلمي الذي جربته شعوب كثيرة وحصدت من خلاله النجاح، وهي تجربة لم تستفد منها الحركات الإسلامية التي قدم بعضها الهدف الأصيل على الوجود، مجرد الوجود والحفاظ على بعض المؤسسات التي ما تلبث أن تنتزع ما إن يتراجع حضور تلك الحركات في الشارع.
عندما يخوض تنظيم ما, معركته مع أي نظام بعضلاته الذاتية، فإن النتيجة معروفة في ظل تطور أجهزة الأمن وقدرات الدولة الحديثة على مختلف الصعد، لكن خوض المعركة بالجماهير وتوحيدها على برنامج مقنع هو وحده القادر على إحداث التغيير، سواء كان التغيير الشامل، أم التغيير الجزئي الذي يعني موافقة النظام على ديمقراطية وتعددية حقيقية تمنح الناس حريتهم الكاملة في تقرير شؤونهم.
في تونس خاض الناس معركتهم بعيدا عن أية قوة سياسية، وتمكنوا من إحداث التغيير. ولو توفر قدر من التنفيس الذي يتوفر في دول عديدة لربما اختلف المشهد، لكن التغيير يحتاج إلى ما هو أكثر من الهبة الشعبية. إنه يحتاج القادة الذين تثق فيهم الجماهير، سواء كانوا ممثلين لأحزاب، أم كانوا مناضلين كباراً يقتنع بهم الناس.
حين تكون القوى السياسية الحية هي قائدة التغيير، فإن الموقف سيكون أفضل، لاسيَّما إذا توحدت على عنوان عريض هو التغيير الشامل الذي يعني فرض تعددية حقيقية تمنح الناس حرية اختيار الجهات التي تحكمهم، والبرنامج الذي يسيرون عليه.
في اليمن رأينا ملامح تجربة لتحالف عريض من أجل التغيير، لكن المجتمع القبلي حال دون إكمال التجربة، ومعه بالتأكيد تردد بعض القوى في إكمال المهمة، ومن ضمنها القوى الإسلامية، فضلا عن ذكاء النظام الذي لا ينكره أحد.
الآن يمكن القول إن تونس تمنح الجميع تجربة حية، فالشعوب العربية ليست قاصرة عن إحداث التغيير. صحيح أن الدعم الغربي للأنظمة القائمة يقف عائقا في الطريق، لكنه عائق بالإمكان التغلب عليه إذا توفرت الإرادة، وتوفرت القيادات والحركات المصممة على التغيير مهما بلغت التضحيات، وليس تلك التي تمارس عملها بالتسول على أبواب الأنظمة. ولا شك أن ثورة الإعلام ووسائل الاتصال هي العامل الأبرز الذي يمنح التضحيات حضورها وتأثيرها.
إننا في حاجة ماسة لذلك، فغياب الحرية والتعددية ليس أمرا هامشيا بالإمكان التعايش معه. إنه يتلاعب بقوت الناس ويغرق البلاد في النهب والفساد، وهو يغيب الحرية والعدالة والمساواة، وهو يرهن القرار السياسي للخارج، وعموما فهو يدير الشأن العام على نحو يخالف قناعات الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية في كثير من الأحيان.
إن المعاناة الناجمة عن غياب التعددية ليست يسيرة بأية حال، والأمر ليس من النوافل كما يقال، بل هو من فروض الأعيان في هذه المرحلة من حياة شعوبنا ومنطقتنا التي تتعرض لاستهداف بشع من قبل قوى الخارج المتربصة بها وبوحدتها ومصالحها بشكل عام.
الشيخ القرضاوي قال إن الحرية هي الأولوية، وحين تتوفر الحرية والتعددية سيكون بوسع الناس أن يختاروا مرجعيتهم، وهم لن يختاروا غير الإسلام مرجعية لهم في شؤونهم كلها، ومن يعتقد غير ذلك لا يعرف هذه الأمة ولا شعوبها.
لقد علمتنا تونس الكثير، فهذا البلد الذي كانت بعض نخبه تبث الإحباط بشأن قدرة الناس على مواجهة عسكرة المجتمع، ها هو يقلب كل الموازين وينتصر ويحقق التغيير، مع أنه تغيير لم يكتمل فصولا بعد في ضوء بقاء كثير من الوجوه التي حكمت المرحلة السابقة. وسواء اكتملت التجربة أم لم تكتمل لظروف ما، فإن الرسالة قد وصلت لمن يعنيهم الأمر من سائر الفئات في السلطة والمعارضة.