أحمد الشرعبي

حاجة اليمن تستدعي وجود مشروع وطني غير مأزوم يملأ بعضاً من الفراغات التي أخلتها الدولة والمعارضة لصالح تيارات متطرفة تقوض الاستقرار الداخلي وتهدد الأمن الإقليمي

كل شيء في اليمن يدعو للحيرة والارتباك.
ما من خاصية تميز أفعال الساسة عن ممارسات غيرهم من محدودي الوعي ولا فوارق جوهرية تسم طبقة الأثرياء ورجـال المـال في موازاة متعجلي الثراء على حساب القانون وتكافؤ الفرص.. تتغاير الأقوال وتتناغم الممارسات وما من اختلاف بين الأمس الشمولي واليوم الديمقراطي.
على أن السمات المشتركة تبدو أكثر جلاءً في سفر العلاقة بين السلطة والمعارضة وإن كانت الأخيرة تتطوع من ذات نفسها أحيانا أو بالأصح تتحاذق بأداء مهام غفل عنها نظام الحكم.
ولست مبالغاً إذا اعتبرت الصراع السياسي ndash; غير الراشد ndash; في العربية السعيدة قريبا من الطبيعة وتقلبات أحوال الطقس.. فطالما مرت ndash; باليمنيين ndash; أعراض الفصول الثلاثة خلال يوم واحد. مطير في صباح الله الباكر ومشمس قائظ ظهراً وشتوي قارس بعيد العصر..
في اليمن صراع رتيب يستثير حماسة أطراف ينازع كل منها الآخر على أداء نفس الوظيفة وما يتصل بها من سياسات.
صراع عدمي يتغذى على خطـاب آني مشحون بالمفردات الانتقامية وحديث مشبوب بعاطفة باهتة تتلهى بالشعب وتحتطب مصالحه وتغرد باسم الوطنية وقيم الانتماء بينما القوى السياسية تقضي عقوبة الصـب الاختياري انتظاراً لموعد دعت إليه سفارة الولايات المتحدة الأميركية للقاء بوزيرة خارجيتها هيلاري كلينتون التي لم تكن بعد فرغت من استكمال بحث أجندتها مع السلطة أو أنهت ارتباطها المسبق بحديقتها الخلفية من نشطاء المجتمع المدني ومراكز الأبحاث المحلية.
يقتصر الصراع السياسي في اليمن على مطامح ومطامع السلطة دون اعتبار لوظائفها أو اكتراث بماهيتها أو شغل حقيقي يعنى ببناء مؤسساتها.
ومن وقت لآخر تنفرج أسارير الأزمة وتلوح تسويات سياسية وتتيسر صفقات بين مراكز نفوذ ويكاد يكون ذلك طابعاً اعتيادياً مألوفاً في حياة لم يعد معظم شاغليها يثق بالسلطة أو يطمئن إلى المعارضة.
لدينا نفس الشعار الغربي القائل (المعارضة هي الوجه الآخر للسلطـة) بمعنـى التلازم في قياس القوة أو الضعف لكننا في اليمن نفهم الأمر على النحو الذي يلغي التغاير، إذ السلطة ووجهها الآخر صورة واحدة بإطارين مختلفين.
على خلفية هذا المشهد تومض محاولة يمنية جديدة تطرح فكرة التغيير للأفضل وتقرنه بالبناء بدلاً عن الصراع، وتركز على أداء مؤسسات الحكم وعلاقتها بالتنمية والعدالة وسيادة القانون بصرف النظر عن شخص الحاكم أو نسبه أو منطقته.
حاجة اليمن تستدعي وجود مشروع وطني غير مأزوم يملأ بعضاً من الفراغات التي أخلتها الدولة والمعارضة لصالح تيارات متطرفة تقوض الاستقرار الداخلي وتهدد الأمن الإقليمي.
وهي ذات الحاجة المشتركة التي تدعو الأشقاء العرب لتلبيتها من خلال إعادة النظر في الاستراتيجيات القديمة التي تقتصر رؤيتها لليمن على الطابع الاعتيادي المرتبط بالبروتوكولات الدبلوماسية ودوائر الأصدقاء التقليديين في مناطق النفوذ القبلي.
ثمة مستجدات هامة على المسرح السياسي غير أن الصورة النمطية لدى أشقاء اليمن وبعض أصدقائه لا تزيد عن كونها تراثاً تتواصى عليه قيم وفاء.. وفيما عدا ذلك دعونا نتساءل عن أثر العلاقات اليمنية الخليجية على صعيد مواجهة المخاطر المحدقة في جانب والمثيرة للقلق في الجانب الآخر.
لم تكن الحياة ndash; هنا ndash; لتصل إلى مثل ما هي عليه من ضمور لولا تواطؤ القوى السياسية الداخلية جميعها على تعطيل قدرات المجتمع وإشاعة اليأس في أوساطه وإغلاق منافذ ونوافذ الأمل في إمكانية التغيير بوسائل متدرجة تأخذ بداياتها من التنمية الوطنية وبناء الإنسان وتطوير ملكاته وإشباع متطلباته الحياتية وتحريره ndash;وهو يتجه إلى صناديق الاقتراع ndash; من الفاقة وحالة الارتهان القاتل ساعة يبدو رغيف الخبز أكثر جاذبية من الحرية!
إن أكثر المشكلات التي تحاصر اليمن وتؤرق العالم ndash; على حد زعمه ndash; بدأت وواصلت نموها المطّرد في ظل شراكات طويلة جمعت الأحزاب التاريخية في الحكم والمعارضة معاً.. ولا معنى للتنازع القائم بين قياداتها على استثمار المعضلات لتحويلها إلى أوراق ابتزاز.
إن نشوء وتكون قوى سياسية جديدة تحمل أهدافاً تنموية وثقافية واجتماعية بحتة وتجعل تطلعها المشروع للسلطة في آخر اهتماماتها يتطلب قدراً من التفهم لدى الأشقاء والمانحين.
هل قلت شيئاً؟.. لا، ولكني حاولت!