سركيس نعوم

في quot;رسالةquot; رئيس حكومة تصريف الاعمال سعد الحريري الى اللبنانيين عموماً والى جمهوره خصوصاً رصانة، والتزام العمل لاقامة دولة المؤسسات، ورفض للاحتكام الى الشارع، وإصرار على عدم الوقوع في لعبة الدم. وفيها ايضاً عزم وتصميم واضحان على الاستمرار في تحمّل المسؤولية السياسية والوطنية من خلال العمل السياسي وتحديدا النيابي، وكذلك من خلال التمسك بالسعي الى ترشيح نفسه لرئاسة الحكومة المقبلة، مع ما يعنيه ذلك كله من رفض لما يعتبره خضوعاً للتهويل والتخويف والتخوين وللسلاح والمسلحين ولمن يدعمهم من حلفاء الداخل والخارج. وفيها ثالثاً تمسُّكٌ بالتحالفات العربية وفي مقدمها التحالف مع المملكة العربية السعودية، مع ما يعكسه ذلك من استعداد للعمل معها بغية حماية لبنان من سيطرة محور اقليمي عليه مؤذية في رأيه (اي الحريري)، ومن إمساك فريق داخلي بمفاصل الحركة السياسية والاقتصادية والعسكرية والامنية في لبنان، الامر الذي يجعله لا يشبه ذاته او على الاقل لا يشبه اللبنان الذي تفضّله غالبية اللبنانيين في رأيه طبعاً. وفيها رابعاً، غمزٌ ولمزٌ وإن على نحو مهذب تضمن تحميل جهات معروفة ولكن من دون ان يسميها مسؤولية الاخفاق في حل الازمة الحكومية، واحباط الحركة العربية ndash; الاقليمية الساعية الى تأمين ظروف مناسبة له. وفي الرسالة خامساً واخيراً، تأكيد لالتزام نهج الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بل تأكيد ان quot;تيار المستقبلquot; الذي اسسه هو لا يزال مستمراً عبر ابنه سعد. كما فيها استثارة عواطف الناس الذين احبوا هذا الرجل، والذين بقوا على وفائهم له من بعد انتقاله الى جوار ربه، والذين لم يجد وريثه سعد وخلفه الاول فؤاد السنيورة غيرهم سنداً لهما في الاوقات الصعبة، وخصوصاً عندما كان يتحرك الشارع او عندما كانت تُحرّكه العصبيات الطائفية والمذهبية، رغم انهما في حالات معينة لم ينجحا في اراحة هؤلاء الناس ومعهم سائر اللبنانيين. ويتحمّل مسؤولية ذلك الوضع العام والانقسامات الحادة وتدخلات الخارج. لكن تتحملها ايضاً عوامل اخرى من ابرزها عدم اكتمال الخبرة عند البعض وعدم امتلاك البعض الآخر إياها، وعدم امتلاك البعض الثالث الاستقلالية التامة، والارتباك في الملمات عند البعض الرابع، والالتهاء بالمكاسب عند البعض الخامس، والتنازع على المواقع الاولى والمتوسطة والأقل منها عند البعض السادس.
لماذا هذا الكلام؟ للتشديد على ان اهم ما في quot;رسالةquot; الحريري الى اللبنانيين هو مضيّه في ترشيح نفسه لتأليف الحكومة المقبلة رغم ادراكه وإن متأخراً، اي قبل ساعات من توجيهه هذه الرسالة، وهذا أمر قد لا يغتفر، ان الرياح المؤاتية لن تضرب في شراعه، محلية كانت أو اقليمية أو دولية وإن لاسباب متنوعة ومتناقضة. طبعاً كان في إمكانه ان يعتذر عن عدم ترشيح كهذا. لكنه لم يفعل اولاً لان عدد النواب المؤيدين له، وكانوا غالبية، لا يقلُّ كثيراً عن الغالبية المطلقة في مجلس النواب رغم كل الضغوط المعروفة، ولأن مصلحته السياسية تقتضي شدّ عصبهم والمحافظة عليهم الى جانبه وجانب 14 آذار. ذلك أن المواجهة مع 8 آذار وحلفائها الاقليميين لن تنتهي بتسمية الرئيس المكلف، ولا بتأليف الحكومة على الصعوبات التي ستعترض ذلك، كما توقّع quot;العتيقquot; الرئيس نبيه بري قبل يومين. بل ستستمر ربما دهراً او اكثر وقد تستعمل فيها كل انواع الاسلحة السياسية وربما غير السياسية لا سمح الله. ولم يفعل ثانياً، لأنه يريد ان يُثْبِتَ بالفعل انه يؤمن بالديموقراطية في لبنان وتداول السلطة، ويريد ان يُفهِم اللبنانيين في شكل او في آخر انه يدفع ثمن هذا الايمان، ولجهات لم تؤمن في رأيه بالديموقراطية الصرف، وتُفضِّل عليها الديموقراطية المدعومة بالسلاح وبدعم الخارج القريب والفاعل.
ماذا سيفعل الرئيس الحريري بعد الاستشارات التي يُرجَّح الا تكون نتائجها في مصلحته اذا صدقت التوقعات والمعلومات؟ علماً ان في لبنان لا شيء نهائياً يلمسه الناس.
لا احد من الناس، اي من غير المطّلعين على اسرار قريطم وquot;بيت الوسطquot; كما على اسرار مراكز قيادة التيارات والزعامات الاخرى في البلاد، يعرف ماذا سيفعل. لكن الواعين منهم يتمنون ان يرفض، اذا كان صادقاً في تأييده الديموقراطية ودولة المؤسسات، الاشتراك في الحكومة الجديدة كأقلية بثلث معطل او من دونه. علماً ان احداً لا يتوقع عودة ثلث كهذا مع سيطرة 8 آذار على الحكومة. وسيتعذر تمويه وزير الثلث المعطِّل في حصة رئيس الجمهورية كما حصل في الحكومة المستقيلة، لأن الرئيس قد لا يحصل هذه المرة على حصة حكومية. او هذا ما يقال حتى الآن. ويتمنون ايضاً ان يجلس الحريري في مقاعد المعارضة، وان يمارس المساءلة والمحاسبة وليس النقد والشتم والتجريح والتشهير غير المُسنَد. وكل ذلك لم يُقصِّر احد من افرقاء السياسة في لبنان في استعماله عند الحاجة. ويتمنون ثالثاً، اذا فاز فريقه الخاص او الفريق الاكبر الذي يقود في الانتخابات النيابية المقبلة ، ان يعمل للعودة الى الحكومة بغالبيته. ويتمنون رابعاً واخيراً، ان يكون فريق 8 آذار الذي يقوده quot;حزب اللهquot; ديموقراطياً بالفعل وتحديداً ان يثبت هذه الديموقراطية بعد الانتخابات النيابية المقبلة. اي ان يجلس في صفوف المعارضة ويترك منافسيه يحكمون اذا حصلوا على الغالبية النيابية. اما سبب التمني الأخير هذا فهو اقتناع كثيرين في لبنان، ومنهم من كان معادياً لـquot;الحزبquot; منذ اواخر 2004 بأنه لا يختلف عن حليفتيه سوريا وايران من حيث طبيعة النظام. فالاولى غير ديموقراطية وفقاً للمعايير الغربية طبعاً. والثانية فيها شيء من الديموقراطية لكنه غير كاف. ولذلك فأنهما لا تؤمنان بتداول السلطة. فضلاً عن ان ما يخيف الناس من وصول المؤمنين بهما او المتحالفين معهما هو ان ديموقراطيتهم هي لمرة واحدة. ذلك انهم يتخلون عنها بكل قواعدها فور وصولهم بواسطتها الى السلطة.
في اي حال لا بد من إعادة الاعتبار الى الديموقراطية الحقيقية، ومن التخلي عن الديموقراطية التي سميت زوراً توافقية لأنها لم تكن ديموقراطية بل ذات غطاء ديموقراطي استعمل اما للتعطيل واما لتنفيذ اجندات عدة. ولا بد ايضاً من إعادة تعويد الناس الديموقراطية لأنها قد تساعد في منع تقاسم لبنان مذهبياً وطائفياً، وربما في منع تقسيمه، او حتى في منع زواله، وإن ظهر في البداية انها حَرَمَت غالبيات في طوائف او مذاهب حق التمثيل النيابي. ذلك ان اختراق هذا التمثيل حواجز الطوائف والمذاهب يتطلب وقتا.
هل يتحقق ذلك؟ لا احد يدري، فضلاً عن ان الشكوك في تحقيقه كثيرة جداً ومبررة.