يوسف أباالخيل

ما كان للإدانات التي أعقبت تفجير كنيسة القديسين في مصر ليلة عيد رأس السنة الميلادية الجديدة, وقبله تفجير كنيسة سيدة النجاة في العراق, أن تؤتي أكلها دون أن تنتظم في سياق خطاب إسلامي ينطلق من المثمنات الروحية للدين الإسلامي بعيداً عن التلبس بألاعيب السياسة. ذلك أن تلك التفجيرات نفسها انتظمت, ولا تزال, في سياق خطاب ديني متطرف لا يرى للآخر المختلف دينياً, بل, ومذهبياً, حقاً في الحياة.

مع ذلك, فثمة مشكلة عويصة تنبع من حقيقة أننا لسنا أمام خطاب إسلامي واحد, إذ إن الساحة الإسلامية تمور بعدة خطابات, كل منها يبتدر الساحة ليأخذ بخطامها نحو رسالته التي تتأسس, ولا بد, على بنية فكرية تحدد له الثابت من المتحول. هناك, مثلاً, الخطاب الإخواني, وما تناسل منه, كالخطاب الصحوي و السروري, وهناك خطاب حزب التحرير الإسلامي, وبالجملة كافة الخطابات التي تنتجها أحزاب وجماعات الإسلام السياسي. جميع هذه الخطابات ذات بطانة إيديولوجية تمتح من براغماتية سياسية تبرر لها اتخاذ مواقف مختلفة ومتلونة, حسب اتجاهات مصالحها السياسية, حتى وإن ادعت طهرانية كاذبة مدموغة بادعاء الحرص علىquot;مصالح الأمةquot;!. هذا يعني أن موقف تلك الخطابات من مسألة, كمسألة الاعتداء على المعابد غير الإسلامية, ومنها الكنائس, يتحدد سلفاً بمعيار مصلحتها السياسية الآنية والمستقبلية. ولذا, لا غرابة إن رفع بعضها عقيرته مديناً تلك التفجيرات, مغلفاً إدانته بادعاء مراوغ مضمونه النظر إلى مرتاديها على أنهم مواطنون يجب تكييف العلاقة معهم من خلال حقوق وواجبات المواطنة, رغم أن بنيتها الفكرية لا تعترف بالمواطنة أصلاً. بل, إنها(=المواطنة بالمفهوم الحديث) تشكل الضد الفكري والعملي لإيديولوجيتها التي تعمل وفق المفهوم الأممي. وبالتالي فلو استصحبت, عملياً, مفهوم المواطنة, لأتت على تلك البنية من الأساس.

الخطاب السلفي التقليدي ظل يستمد, منذ الحنابلة الأُوَل, ثوابته ومتغيراته من بنية فكرية ظلت بعيدة, نسبياً,عن تخوم السياسة, أو على الأقل, عن المواقف السياسية ذات المنحى البراغماتي, كما هي لعبة الإخوان, والسلفيين الحركيين, وأشياع حزب التحرير...

هذا الوضع يكاد ينطبق على كافة الخطابات الإسلامية التي تتلبس بالسياسة. وهذا ما يؤكده الكاتب والخبير بشؤون تلك الجماعات:خليل علي حيدر, بقوله:quot;العديد من الجماعات والأحزاب الإسلامية في العالم، تؤيد وضع الدساتير وإجراء الانتخابات وتأسيس المجالس والبرلمانات. لكنها في الأغلب, لا تؤمن بالديمقراطية نهجاً، وبخاصة التعددية الليبرالية، التي نراها في أوروبا والولايات المتحدة واليابان والهند وغيرها. وهي إنْ آمنت بها، حصرتها غالباً في مجال البرلمان وحده قدر المستطاع، وضيقت عليها الخناق في مجالات الحياة الأخرى كالثقافة والحريات الاجتماعية وحرية الفكر والعقيدةquot;. وإذا عرفنا أن الليبرالية السياسية التي تشكل المواطنة الحديثة أحد أهم مرتكزاتها, تقوم على مبدأ هام هو: حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب, بما يعني انتفاء إمكانية قيام الدولة على أساس ديني, ناهيك عن خرافة قيام دولة أممية دينية, كما هي الفورات الهذيانيّة الشيزوفرينية لتلك الجماعات, وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين و حزب التحرير الإسلامي, والجماعات السلفية الجهادية. هذا يعني أن تداعي هذه الأحزاب وممثليها في طول العالم الإسلامي وعرضه لإدانة الاعتداء على المعابد غير الإسلامية, انطلاقاً منquot;وطنيةquot; العلاقة التي تربطهم مع روادها, يظل نفاقاً سياسياً ممجوجاً خالياً من أي معنى.

الإدانة الفاعلة, أو التي يرجى أن تكون كذلك, لا بد وأن تأتي من خطاب إسلامي ذي منزع روحاني بحت لا يتلوث بألاعيب وفذلكات السياسة, وهذا المنزع يمكن أن يجد له موطئ قدم لدى الخطاب السلفي التقليدي, خروجاً من الخطاب السلفي الحركي الجهادي, الذي لا يقل براغماتية ونفعية وتلوناً وانتهازية عن كافة الأحزاب والجماعات السياسية الدينية في تكييف مواقفه من الأحداث.

ولكي لا تذهب الظنون بالقارئ مذهباً قصيا, أؤكد له أنني عندما أنعت الخطاب السلفي هنا بquot;التقليديةquot; فإني لا أنبزه, ناهيك عن أن أنتقص منه, بقدر ما أفرقه عن الخطابات الحزبية والسياسية, كالخطاب الإخواني, أو التحريري(= نسبة لحزب التحرير الإسلامي),أو السلفي الجهادي الحركي, والتي تتكئ على إيديولوجيا سياسية متموجة حسب تموجات السياق السياسي الذي تعمل فيه. لقد كنا ذات يوم طلاباً نجباء في أحضان خطاب سلفي تقليدي يمد بسبب إلى بنية فكرية تجافي السياسة, فلا تعطي دنيتها في الدين!. كنا ,حينها, لا نعرف تكفير المعينين أو الجماعات, ناهيك عن تكفير الحكومات. كان ذلك قبل أن تتخطفنا بهلوانات الصحوة لتردينا في مصاريعها ردحاً من الزمن, قبل أن تنتشلنا المنة الإلهية من عفنها السياسي.

الخطاب السلفي التقليدي ظل يستمد, منذ الحنابلة الأُوَل, ثوابته ومتغيراته من بنية فكرية ظلت بعيدة, نسبياً,عن تخوم السياسة, أو على الأقل, عن المواقف السياسية ذات المنحى البراغماتي, كما هي لعبة الإخوان, والسلفيين الحركيين, وأشياع حزب التحرير. ومن هنا, تبدو مواقفه -أعني الخطاب السلفي التقليدي- صادقة حين يبوح بها, بغض النظر عن مراعاته ظرفاً أو ظروفاً معينة. معيار الصدق هنا يكمن في عدم تغليفه خطابه بأي بطانة سياسية. من هنا, تحديداً, تكمن أهمية قياس مدى تطور الخطاب السلفي التقليدي من الأحداث, خصوصاً ما يتصل منها بالعلاقات مع الآخر المختلف دينياً, على افتراض أنه ربما تكون خطوة في خط تطور بنيويquot;حقيقيquot; يمكن أن يكون داعماً باتجاه تكوين رؤية إسلامية شمولية تأخذ على عاتقها معالجة الظاهرة الإرهابية الدينية من جانبها الإسلامي, وهو المهم بالنسبة لنا كمسلمين.

ثمة مواقف سلفية تقليدية أعقبت تفجير كنيسة القديسين بمصر, تميزت بتطور لافت للغتها التسامحية مع غير المسلمين . فمثلاً, ضمَّن سماحة المفتي إدانته لتفجيرات الإسكندرية بالتأكيد على أنquot; سفك الدماء وقتل الأبرياء بغير حق أمر لا يقره شرع ولا عقل، فالإسلام ليس دين التفجيرات ولا يجيز استهداف دور عبادة غير المسلمين. وما حدث أمر محزن ومؤسفquot;. وشدد على أنquot; ما حدث في مصر مقصده الأول والأخير ضرب المسلمين ببعضهم, ورفع حدة الغضب ضدهم, وإشغالهم عن واجباتهم الأساسية, وضرب الوحدة الوطنية(...) في مصر, وإشعال فتيل الأزمات والصراعات. وهو أمر لا يقره الإسلامquot;. أما عضو هيئة كبار العلماء الشيخ صالح الفوزان فقد أدان ذلك الاعتداء بقولهquot; هذا من الغدر, إن كان من المسلمين الذين هم من أهل مصر فهو من الغدر, لأن هؤلاء النصارى لهم عهد ولهم ذمة(...) عند المصريين، فهم جيرانهم ويسكنون معهم, فلا يجوز الغدر بهم. وإن كان من خارج مصر وليس من أهلها فهذا لا يحسب على مصرquot;. وشدد الشيخ الجليل على حرمة الأنفس المعصومة، سواء أكان من المسلمين أم من المستأمنين, فتساءل:quot;الأطفال ما جرمهم؟ النساء ما جرمهن؟ المستأمنون والمعاهدون الذين لم يحصل منهم أذى على المسلمين ما جرمهم؟quot;.

فيما أشار إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ صلاح البدير إلى : quot;أن استهداف كنيسة الأقباط في مصر والنصارى الذين يتعبدون فيها عمل إجرامي وظلم وعدوان تحرمه الشريعة الإسلامية ولا تقره, وهو قتل للنفوس المعصومة المحرمة بغير حق، وعمل إرهابي يناقض روح الإسلام ومبادئه التي قامت على العدل ومعاني الرحمة والوفاء بالعهود ونبذ البغي والظلم والعدوانquot;. وأضافquot; القتل بغير حق(...) جريمة مزلزلة، وخطيئة مروعة، سواء أكان المقتول من أهل الملة أم كان من أهل العهد والذمةquot;. وأيضاً:quot;لأهل الذمة(...) في ديار الإسلام ذمة وعهد وحقوق وعليهم عهود وواجبات وشروط، ومن أخل بشيء من ذلك أو فعل ما يوجب نقض عهده لم يكن لأحد من الناس أن يتولى ذلك بنفسه, كما هو الحال في شأن المسلم إذا فعل ما يوجب عقوبته. بل منتهى ذلك إلى ولاة أمور المسلمين الذين لهم الإمامة العظمى والولاية العامة والحكم والسلطان على ما تقتضيه مصلحة الدينquot;.

لم يعد ثمة شك في أن الخطاب السلفي التقليدي, وهو يدين تفجيرات الكنائس, وبالجملة, معابد غير المسلمين, خاصة من أهل الكتاب, كان يشتمل على عناصر تقدمية تصلح لتكون بذرة لإرساء قواعد علاقة مدنية تذر الهويات الدينية لتكون بين الإنسان وربه. بل إن هذه الإدانات حملت معها ما يشير إلى اعتراف صريح بquot;الوطنيةquot;, وهو المعاكس الموضوعي للعلاقة الهويانية, الدينية منها بالذات. هذه الوطنية التي تشكل الضد المعاكس لإيديولوجيا جماعات الإسلام السياسي.

مع ذلك, فثمة ما يشوب هذه المواقف الجديدة ذات المنحى التقدمي من ضعف ذي امتداد (بنيوي) قد يقصر بها عن أن تكون ذات أثر قوي في محاربة التطرف الديني. ذلك يعني أن الأمر يتطلب تماسًا جاداً مع ثوابت البنية الفكرية السلفية التي قد لا تتفق مع بنية الفكر السياسي الحديث التي تساوي بين المختلفين, دينياً ومذهبياً, على قاعدة الوطنية.