إياد الدليمي

سعى كثير من المثبطين والمهولين والخانعين إلى محاولة بث سمومهم مع بدء تباشير الثورة التونسية المباركة التي أطاحت بالرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، فصوروا لنا البلاد الخضراء بأنها في الطريق لتصبح عراقاً آخر أو صومالاً أو لبناناً جديداً، بل إن بعضهم ممن كان يُظهر دعمه لهذه الثورة بلسانه فقط، قالوا إن هؤلاء الشبان المساكين أطاحوا برأس وبقيت رؤوس، وإن ما جرى في تونس لا يعدو كونه تغييرَ وجه بوجه آخر دون أن ينتهي نظام الاستبداد والديكتاتورية التي كان يرأسها بن علي.
وليس بعيداً ما أعلنه الزعيم الليبي معمر القذافي بأن التونسيين استبدلوا بن علي بآخر وكان يجب عليهم الانتظار حتى عام 2014، لينتهي عهد الرئيس المخلوع ويأتي رئيس آخر دون هذه التضحيات التي قدمها الشعب التونسي، على رأي القذافي.
إن قراءة متأنية لما جرى في تونس وتحديدا بعد هرب بن علي وليس قبله، تؤكد من جديد أن الشعب التونسي وقياداته النقابية والمهنية واعية ومدركة تماما لطبيعة المرحلة، فرغم كل التحفظات التي أبداها التونسيون على حكومة محمد الغنوشي، والتي أدت إلى انسحابات بالجملة من قبل القوى الوطنية التي أعلنت انضمامها لهذه الحكومة، فإن التونسيين يدركون أيضا أن ما يجري الآن هو حالة مؤقتة، بل إنهم يأخذون الأمور خطوة خطوة ولا يستعجلون قطف الثمرة النهائية المتمثلة بنهاية وقطيعة حقيقية مع حقبة بن علي الاستبدادية.
إن شعبا كسر وحطم حاجز الخوف من النظام الأمني القمعي المتمثل في نظام بن علي وحزبه وأجهزته الأمنية، لا يُخشى عليه، ولا يمكن أن نخشى عودة الديكتاتورية إليه مجددا وإلى الأبد، فلقد أصبح لدى التونسيين حنكة شعب رافض للاستبداد، قادر على الخروج من أغلاله وقيود الخوف التي زرعت على جنبات شوارعه، نحن الآن أمام شعب عرف كيف يخرج من زوايا الخوف التي حشره فيها النظام، وصار اليوم يتنفس الحرية، فأبداً لن يعود إليها.
ولا يبدو أن الشعب التونسي عازم على التوقف في ثورته الياسمينية عند هذا الحد، فهو لا يريد لها أن تُصادَر من قبل بعض النفعيين، ولا يريد لها أن تكون مطية لبعض قيادات الحقبة الماضية للعودة مجدداً إلى الحكم، لذلك فهو مستمر في مطالبه، فما إن تنتهي مسيرة سلمية حتى تطلع أخرى، وكلها تعبر عن تطلعات مرحلية تقضي أولا بألا تعود حقبة بن علي بأي شكل من الأشكال، ولا حتى بشعار أو رمز.
وإذا كان هناك من إعجاب يسجل بهؤلاء الشبان وتلك النقابات المهنية والعمالية في تونس، فهو بذلك التدرج المنطقي والمدروس في التعاطي مع متطلبات المرحلة، تدرج ينم عن وعي وحنكة ودراية بواقع الحال في تونس ربما يفتقر لها العديد من الأحزاب السياسية التونسية.
الأكيد أن ثورة الياسمين على الطريق وأن ما تحقق حتى الآن من ثمار هذه الثورة لا يعدو كونه بداية الانطلاق، وهو خط الشروع الأول لتونس جديدة، تنعم بالحرية والأمان والديمقراطية المنبثقة من روح الشعب.
وأيضا، فإن ثورة الياسمين وبهذه المنهجية الرائعة في التعاطي مع الأمور، ستمثل درسا مهما لكل حركات التحرر في العالم، وأولها حركات التحرر العربية التي بدأت تتنفس مجددا بعد ثورة تونس، وصارت تناقش هي الأخرى الآليات التي تنقلها من مرحلة الخوف والاستكانة في ظل الأنظمة الديكتاتورية والقمعية إلى مرحلة الثورة المدروسة والتي لا يبدو أنها ستكون بعيدة عن بعض البلدان العربية التي تعيش واقعا مأساويا أكثر مما كان في تونس الخضراء.