بثينة شعبان


هناك في أقصى مشارق الأرض حيث تبدأ الشمس إشراقتها الأزلية على العالم يستقيظ شعب نشيط واجه القنابل النووية، وذاق ذل الاحتلال الأميركي وأبشع أشكال التدمير الشامل بعزيمة البناء، وإرادة التفوق، وإرساء أسس دولة ومؤسسات فاعلة، أصبحت بلادهم اليابان خلال نصف قرن من الزمن الصعب محطّ أنظار شعوب العالم وقدوة لانبعاث الأمم من تحت الركام ومثلاً لها في نجاح الضحية بالخلاص من براثن الهيمنة الأميركية. ما إن تصل إلى هذا البلد الفريد بتاريخه، والغنيّ بعطاءاته، والمتميّز بإنجازاته إلى أن تدرك أنك أمام ثقافة مختلفة لم تختبرها في أي مكان منَ العالم. فاليابانيون يحيونك بانحناءات متكررة تعبّر عن التقدير والاحترام لإنسانيتك وليس لموقعك أو منصبك، وتفتح عينيك على حقيقة، خاصة وأنت القادم من عالمنا العربي، إلى أن الزمن هنا يقاس بالدقائق وليس بالساعات والأيام والأسابيع والأشهر والأعوام. تنحني مرافقتي من وزارة الخارجية وتطلب إذناً أن تشرح لي إلى أين نتجه الآن، وما هي الخطة للساعات القليلة المقبلة، فتخبرني بأننا نحتاج إلى ثلاثة عشرة دقيقة للوصول إلى مكان اللقاء، وهذا يعني أنه لدينا دقيقتان الآن تتمكن خلالهما أن تطلعني على المعبد القريب، والذي يقصده الشباب قبل أن يبدأوا عملهم فيأتون إليه ليصلّوا كي يوفقهم الرب في عملهم الجديد. حين تصل إلى مكان اللقاء تجد من ينتظرك على الباب ليقدّم لك بطاقات التعريف، ويصطحبك إلى طابق محدد في البناء دون أن ينبس بكلمة لتجد من يستقبلك في الطابق ذاته. فيعود الفريق الأول أدراجه ويصطحبك الفريق الثاني دون شروحات أو كلام أو حتى قول أي شيء. تدخل إلى مكان اللقاء فتجده غرفة تحتوي على كراسي مخصصة للموظف الذي يستقبلك وأعوانه محاطة بصفين من الكراسي على الجانبين لشباب وشابات من الصف الثاني يفوق عددهم بمرات عدد الموظفين الذين يشاركون باللقاء معك. تراقب هؤلاء الشباب الجالسين بهدوء في الصف الثاني فتراهم منخرطين بتركيز شديد على الكتابة فيما يدور النقاش والحوار والحديث بينك أنت الضيف والفريق الياباني دون صدور أي همسة منهم أو إشارة أو حركة. إذا نظرت إلى المسؤول الياباني الذي يحدثك فستجد أوراقاً كتب عليها ملاحظات باليابانية، يقلّبها كل حين بأطراف أصابعه، لتلاحظ بأن صورتك مطبوعة عليها، فهي سيرتك الذاتية إذاً، التي تكون قد وصلت لأنظار كلّ شخص من المقرر أن تلتقي به، ولا يفشل أي منهم من سؤالك عن مناحي الأعمال التي قمت بها كافة، وعلاقة هذه الأعمال والدراسات بعملك الحاليّ. فكرت وأنا أرى هؤلاء الشباب والشابات الذين هم كوادر المستقبل كم نحن بعيدون في عالمنا العربي عن تربية الكوادر الشابة وتدريبها في مواقع العمل والحوار والمفاوضات وكم هي محقة اليابان أن يكون تصميم مكاتبها وأسلوب عملها يحتويان على مكان واضح ودائم ومستمر لهؤلاء الشباب والشابات كي يكتسبوا خبرة كبارهم. لا أحد يسألك هل ترغب بتناول الشاي أو القهوة بل يأتيك الشاي الأخضر الياباني بالفناجين اليابانية الجميلة ذات الغطاء، فتتساءل لماذا ليس لنا شراب وطني وأرضنا غنية بالزعتر والمليسة، واليانسون، والزوفا وغيرها الكثير من الأزهار والأعشاب الطبية بدلاً من الشاي والقهوة اللتين لا ننتجهما نحن العرب بل نستوردهما بعد أن عودّنا المستعمرون على استيرادهما فتبنيناهما مشروباً في المنازل والمكاتب بدلاً من تطوير زراعة الزعتر والمليسة والزهورات الفواحة العطرة التي طالما اشتهرت بها بلاد العرب الواسعة بما فيها بلاد الشام؟
لا تتعب مرافقتي من إيضاح كل خطوة، وكل خطة مقبلة خلال الدقائق أو الساعات التالية، فتطلعني عليها وتناقشني بها. وحين نتوصل إلى القرار تبدأ اتصالاتها لتضمن أن كلّ شيء يسير مثل الساعة السويسرية بالفعل، وهذه ليست مبالغة على الإطلاق. الحياة الروحية هنا كما كانت منذ مئات الأعوام فللناس معابدهم التي لا ينقطعون عنها، ومقدساتهم التي ما زالوا يجلّونها، ونذورهم التي يقدمونها ويؤمنون بفعاليتها في حياتهم اليومية رغم الغزو الثقافي الأميركي العنيف الذي استهدف تحطيم الروح اليابانية. ولكنّ ما لفت نظري ونحن في شوارع طوكيو عدد الناس الذين يضعون الكمامات البيضاء التي تغطي أفواههم وأنوفهم فسألت مرافقتي لماذا يضع هؤلاء الكمامات فقالت لي laquo;انني لا أريد أحداً آخر أن يلقط هذه الجرثومة التي ابتليت بهاraquo; ولكنّ الغريب هو أنهم لا يلبسونها في المكتب أو المنزل وحسب وإنما في الشارع أيضاً لأنهم يحسبون حتى هواء الشارع ويمتنعون عن تلويثه، ليس بسياراتهم وحسب وما يمكن أن يلقى في الشارع، وهو معدوم تماماً، ولكن أيضاً بأنفاسهم التي يعملون على تغطيتها كي لا تسبب أي أذى لآخرين عابرين من هنا. فأتساءل عن حق الجار على جاره في بلادنا، وحق الشارع، والهواء بالحفاظ على سلامته، ونظافته، وأمنه؟
أجمل ما في هذه الحضارة اليابانية هو أنها انتقلت من المرحلة الشفوية، التي ما زالت سائدة ومسيطرة في عالمنا العربي، إلى مرحلة الكلمة المكتوبة والتي هي وثيقة بين يديك حيثما توجهت، ولا مجال بها للتأويل أو سوء الفهم أو عدم السمع أو عدم الانتباه. فما أن تطأ قدماك أرض اليابان إلا أن يسلموك نصوصاً مكتوبة باللغة الإنكليزية توضح لك ما لك وما عليك بالتفصيل الذي نمتنع نحن عن ذكره فقط كي نخلق تشويشاً أو فوضى بحجة الحرج من ذكر هذه المسألة لأنها مادية والتردّد في ذكر تلك المسألة لأنها صغيرة أو غير لائقة. فطريقة التواصل غالباً هي التواصل المكتوب على الورق إذ لا مجال للتفسير والتأويل، بينما نضطر نحن في عالمنا العربي إلى الاتصال وإعادة الاتصال مرات وبأناس كثر من أجل استيضاح جملة وصلت بطريقة خطأ أو مشوشة أو غير مفهومة.
تعبّر الحياة في اليابان عن جهد إنساني حثيث للحفاظ على التراث وما ورثه الآباء عن الأجداد ومزاوجته بما هو حديث ومفيد للأبناء دون إلغائه أو استبداله. حين وصلت إلى فندق في توبا في طريقنا إلى كيوتو تذكرت الذهاب إلى قريتنا والمتعة التي كنت أشعر بها في النوم مع أولادي ووالديَّ على الطريقة العربية. هناك في توبا سألوني هل أرغب بالنوم على الطريقة اليابانية فأجبت بالتأكيد فوضعوا لي فراشاً جميلاً على أرض خشبية للنوم على الطريقة اليابانية وحين ذهبنا لتناول طعام العشاء ووصلنا إلى باب الغرفة التي سوف نتناول طعامنا فيها طلب منا أن نخلع أحذيتنا وندخل إلى غرفة نجلس فيها على الأرض وأمامنا طاولة لا يزيد ارتفاعها على ثلاثين سنتيمتراً لتناول العشاء عليها. وحين شرحوا لي عن تاريخ بعض القلاع والحكام العسكريين هناك، وعاداتهم، وتراثهم ظننت أنني أسمع قصصاً عن الحكام في العصر العباسي، وأنا أسير على أرض القلعة أيضاً حافية القدمين كما تقتضي التقاليد أسمع موسيقى عصفور الليل وهذا من أصل تصميم البناء الذي صمّم في القرن السابع عشر كي يُنبئ عن قدوم لصوص في حال تسلل أحد إلى هذه القلعة.
لقد فسّر لي بعض المسؤولين كأعضاء برلمان أو الحكومة هناك تقاعسهم عن السفر خارج اليابان بسبب الأعمال الكثيرة الملقاة على عاتقهم وأيضاً بسبب تغيّر الحكومات المتكرر في اليابان، ولكنك تشعر أن مؤسسات النظام تسير مثل عقارب الساعة ولا يُضيرها من القادم أو المغادر أبداً. وما يلفت النظر هو أن المسؤولين يلتقون بك دون كاميرات أو إعلام باستثناء وزير الخارجية، وذلك لأن هذا جزء من عملهم والهدف منه هو أن ينعكس على عمل المؤسسة ذاتها وليس إشباع رغبة المسؤول في رؤية صورته في الإعلام، أو عرض العمل الذي يقوم به أمام الآخرين، أو خلق مشهد يبرهن أنهم هنا وأنهم يقومون بالواجبات الملقاة على عاتقهم. الدقة المتناهية هي عنوان الحياة في اليابان، والعمل بصمت وتواضع وكفاءة عالية هو أسلوب الحياة فيها والذي تلمسه ليس في الدوائر السياسية فحسب وإنما في أي قطاع يحالفك الحظ التعرف على ديناميات عمله. هم لايتكلمون كثيراً أبداً، ولا يقولون نعم إلا إذا كانوا متأكدين مئة في المئة أن التنفيذ حتمي لما وعدوا به. لا توجد ثقافة ثرثرة، وكلام مجاني منمق، ووعود تذهب أدراج الرياح. حين تعايش هذه المنظومة الإدارية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية تدرك بحرقة ما الذي ينقصنا في عالمنا العربي وتتوضح لك أوجه التقصير بحق تراثنا وثقافتنا وتاريخنا وتعليم أطفالنا ومستقبل أوطاننا.