معن بشور

يخطئ بعض السياسيين والمحللين في بيروت أو في عواصم المنطقة حين يعتقدون بصوابية الاعتماد على الموقف الأمريكي بعد ما أطلقه أوباما ومعاونوه من تصريحات حول دعمهم للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما أجروه من اتصالات بهذه العاصمة أو تلك، أو ما قاموا به من استقبالات ldquo;ملغومةrdquo; وrdquo;موقوتةrdquo; . فاهتمام واشنطن المتصاعد لا يعني أن القضية باتت كبيرة بقدر ما يعني أن هموم واشنطن واهتماماتها باتت صغيرة خصوصاً بعد أن رأينا سفيرة الدولة الأقوى في العالم تلهث وراء صوت نيابي في لبنان تستميله للتصويت إلى جانب حلفائها .

ومصدر الخطأ هنا ليس فقط في أن الإدارة الأمريكية هي آخر من يحق له التحدث أخلاقياً عن العدالة الدولية فيما الوثائق السرية المسربة تشير إلى جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبها كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين فيها، والتي لو كانت هناك عدالة دولية بالفعل لوجب سوقهم جميعاً إلى محاكمات حول ما جرى ويجري في العراق وأفغانستان بل إلى محاكمات لا تقل شأناً عن محاكمات نورمبرغ الشهيرة التي جرت لأركان العهد النازي الألماني .

بل إن آخر من يحق له التبجح بالحديث عن ldquo;عدم الإفلات من العقابrdquo; هو الإدارة الأمريكية الداعمة بكل السبل للجريمة الدولية المستمرة، والمسماة الكيان الصهيوني وعصابته وحروبه وانتهاكاته، بل الإدارة المانعة لأي إدانة سياسية أو محاكمة جنائية لأركان هذا الكيان رغم توثيق جرائمهم وانتهاكاتهم في تقارير صادرة عن هيئات دولية كالتقرير الشهير حول مجزرة قانا الذي قيل إن الدكتور بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة السابق قد دفع ثمناً غالياً لصدوره، أو تقرير غولدستون حول ldquo;المحرقةrdquo; الصهيونية في غزة أو تقرير جريمة أسطول الحرية، وكلا التقريرين صادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة .

ومصدر الخطأ لا يقتصر كذلك على تجاهل دروس تاريخية عديدة، شهد لبنان أبرزها على مدى 35 عاماً، وشهدت تونس مؤخراً آخر فصل من فصولها، وكلها دروس تشير إلى أن الإدارة الأمريكية، وقبلها أو خلفها تل أبيب، تجيد استخدام المراهنين عليها لخدمة مصالحها إلى أبعد الحدود، كما أنها تجيد المساومة عليهم، أو التنصل منهم بأبشع السبل، إذا احتاج الأمر إلى ذلك، ولنا في الكتاب الشهير ldquo;الضوء الأصفرrdquo; لسفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور عبدالله أبو حبيب الدليل القاطع على هذه الحقيقة، بل لنا عبرة في ذكرى المدمرة الأمريكية ldquo;نيوجرسيrdquo; التي جاءت إلى ساحلنا وألقت بحممها على أرضنا وجبلنا، ثم ذهبت بعيداً في مثل هذه الأيام عام 1984 .

إن مصدر الخطأ الأساسي لدى هؤلاء السياسيين في لبنان والمنطقة يكمن بشكل خاص في عدم إدراك حجم الاحتقان العربي والإسلامي والعالمي من السياسات الأمريكية عموماً، وفي منطقتنا خصوصاً بحيث يتطلع الجميع إلى موقف واشنطن من قضية ما ليحددوا موقفهم في الاتجاه المضاد له، لا سيما حين يكون الموقف الأمريكي متطابقاً مع الموقف ldquo;الإسرائيليrdquo;، كما هو موقفهما من ldquo;المحكمة الدوليةrdquo; اليوم .

وبناء عليه، عبثاً يحاول حاكم هنا أو هناك، أو سياسي في هذا الموقع أو ذاك، استثارة عصبية مذهبية أو طائفية أو عرقية، لصون موقف يتخذه بناء على إشارة أمريكية، فكل هذه العصبيات تتراجع حدّتها أمام الرفض الجارف للسياسة الأمريكية في المنطقة التي تستهدف جرائمها الأمة بكل مكوناتها، ولا سيما المكوّن الأكبر بين تلك المكونات الذي يحاولون استثارته كعصبية هذه الأيام في لبنان في معركة تفتقر إلى الحد الأدنى من شروط النجاح، بل لجره إلى مواقع تتناقض مع تراثه وتاريخه ومواقفه الواضحة من أعداء الأمة .

وكم كان حريّاً بالرئيس سعد الحريري، وبمعاونيه المخضرمين، أن يدركوا الفارق بين الظروف التي قادت إلى موقف والده الشهيد رفيق الحريري، المعتذر آنذاك عن تشكيل الحكومة عام 1998 وبين ظروف اليوم، فيومها كان والده مدافعاً عن دستور ما زال غضاً بعد الطائف وعن بند دستوري متعلق بالاستشارات الملزمة، وكان مع رفاقه ضحية ممارسات قاصرة مستثيرة لعواطف كثيرين ومشاعرهم في حين يشهد لبنان هذه الأيام أخطر مؤامرة تستهدف مشروعاً تاريخياً تحمله الأمة لمقاومة أعدائها، بل تستهدف مشروعاً نجح في تحقيق انتصار ما زالت تداعياته تتفاعل داخل الكيان العدو .

لقد كان جديراً بالرئيس المكلف ومعاونيه أن يدركوا أن المسألة ليست مسألة أصوات نيابية، يعرف الجميع كيف تنتقل من جهة إلى جهة، بل كلنا يذكر كيف أن المجلس الذي أقر اتفاقية 17 أيار/ مايو 1983 المشؤوم هو الذي ألغاها بعد أشهر، ثم هو نفسه الذي صوّت على معاهدة الأخوة والتنسيق والتعاون مع سورياً ،1991 بل كلّنا يذكر كيف تحولت الأكثرية التي حملت الرئيس عمر كرامي إلى رئاسة الحكومة خريف عام 2004 إلى أقلية في ربيع عام 2005 بعد أن تسلل بعض أعضائها، وبينهم من ضرب بسيف السلطان طويلاً، الواحد تلو الآخر، من مواقعهم إلى الضفة المقابلة .

المسألة إذن هي مسألة خيارات تاريخية، لا حسابات ظرفية، ولا يقلل من تاريخية هذا الخيار سوء أداء من هنا، أو خطأ في الممارسة من هناك، فالتاريخ ترسمه اتجاهات كبرى ولا تعطله تفاصيل، على أهميتها، كما لا توقف حركته شياطين مهما تكاثرت، خصوصاً إذا كانت على شاكلة الشيطان الصهيوني، أو تلك الشياطين الموزعة على كواليس القرار في عواصم الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة منها والحديثة .

الصمود في المواقف فضيلة كبرى، لكن المكابرة والعناد في الخطأ أخطر الرذائل .