عبدالله بن بجاد العتيبي

في لحظات تأجج الاضطرابات وضبابية المشهد وعلو دخان الحرائق تعاني أي محاولة لرصد المشهد من الغبش في الرؤية، وتكون أشبه ما تكون بنوعٍ من السير على حقول الألغام، غير أنّ من المهمّ هنا التأكيد على أنّ الغفلة عن التراكمات التاريخية لدى الشعوب غفلةٌ شديدة الوطأة مضنية التكاليف، فالتراكم أشد خطراً من القطرة التي تفيض الإناء، أو القرار الذي يخلق الثورة، أو الحدث الذي يشعل الغضب.

الأحداث التي تتوالى منذ ما يزيد على الشهر في عددٍ من البلدان العربية تحتاج إلى جهدٍ لاستنتاج شيء من درسها وإلا فالمستقبل وحده هو الحكم الفصل فيها، ولكنّها تؤكد بشكل عام على أننا نشهد لحظة تاريخية فاصلة، يعيد فيها التاريخ ترتيب أوراقه، بمعنى أنّ ثمة روحاً تاريخية معينة لها شروطها ومواضعاتها مفاهيميا وواقعياً بدأت في التلاشي، وأنّ روحاً تاريخية جديدة ذات شروط مختلفة بدأت في التشكّل.





ما يجري في مصر فيه ما يخيف وما يحيّر وما يثير الأسى، أما الخوف فهو من مستقبلٍ غامضٍ لمصر والمنطقة إذا انهار النظام هناك بطريقةٍ دراماتيكية وحلّت مكانه الفوضى، وما يحيّر هو أن هذا الحراك بهذا الشكل وهذه الطريقة لم يزل عصيّاً على الفهم الدقيق والتحليل المفيد، وما يثير الأسى هو أن تتحوّل مطالب مستحقة للشعب إلى مجرّد عمليات تخريبٍ وسلبٍ ونهبٍ وانتقامٍ.

لنكن أكثر صراحةً ودقةً ولنقل بأنّه إذا كانت المعادلة في مصر أو غيرها من جمهوريات العالم العربي هي بين حكمٍ جائرٍ أو فاسدٍ أو سمّه ما شئت، وبين شعب مظلوم ومضطهد فإن التاريخ والواقع وأي إنسانٍ سيقف مع المظلوم والمضطهد، ولكنّ المعادلة للأسف أكثر تعقيداً من هذا التسهيل الذي يطرحه البعض، ففي المعادلة متغيرات أكثر ومعطيات مختلفة قد تخلّ بميزان المعادلة منها على سبيل المثال في مصر، إسرائيل والموقف من عملية السلام، والدول الغربية الداعمة لمصر وعلى رأسها أميركا، والصراع الإقليمي في المنطقة.

هذه المعطيات الثلاث تمثّل جزءاً مهماً من المعادلة، فمصر لها مواقف مهمة تجاهها وهي مرتبطة ببعضها بشكل أو بآخر، وحين أقول مصر هنا فإنني أقصد النظام والشعب في آنٍ واحدٍ، فالدعم الغربي لمصر سواءً كان دعماً مادياً أم عسكرياً أم غيره مرتبطٌ بمكانة مصر إقليمياً بما يشمل موقفها من عملية السلام.

لا يكفي أن يكون ثمة أمن قوي، ولا جيش تحت السيطرة، ليتم التمكّن من التحكم في الشعب والشارع، بل الأفضل أن يكون ثمة وعي سياسي وإدراك لما يجب أن يكون، ورؤية تشمل هذا كله بحيث تحقق طموحات الشباب وتضمن استقرار البلاد وتقديم الأفضل دائماً.

في مصر من المهم تلبية مطالب الإصلاح الحقيقي التي يفرضها الواقع ويناشد بها الشعب وتدعمها دول العالم، وقد اتخذ النظام بضع قراراتٍ كإقالة حكومة نظيف وتكليف أحمد شفيق تشكيل حكومةٍ جديدةٍ وأداء عمر سليمان القسم نائباً للرئيس.

ما تشير له القرارات حتى الآن هو أنّ الحكومة الجديدة سيقودها عسكري صارم يراد منه ضمان إعادة الاستقرار، وأن مسألة التوريث انتهت رسمياً بتعيين نائب للرئيس، بقي أن نعرف ماذا سيتمّ بخصوص المطالبات بتعديل الدستور فيما يتعلق بمدة حكم رئيس الجمهورية، ولكم فترة رئاسية؟ وأن نعرف ما هو الموقف تجاه الانتخابات الأخيرة التي اكتسحها quot;الحزب الوطنيquot; بشكل آثار الريبة في حينه، وغذّى الغضب اليوم؟ وما هو الموقف من قانون الطوارئ؟ ونحوها من الأسئلة المعلقة حتى الآن.

كان الشباب هم مادة المظاهرات ومحرّكها الأساس، والواقع يقول لنا في مصر كما في غيرها من الدول العربية بأن الشباب يمثلون النسبة الأكبر من شعوب هذه الدول، وهذا الشباب هو quot;جيل العولمةquot; بما يرمز إليه هذا التوصيف من أبعاد تتعلق بالقيم والمفاهيم لدى هذا الجيل كما تتعلق بالوسائل والأساليب.

جيل العولمة هذا بما لديه من تواصل كبير على الشبكات الإنترنتية، والعالم الافتراضي، وكل وسائل التواصل الحديثة، يمثلون مجتمع quot;الفيس بوكquot;، وشعب quot;البلاك بيريquot;، وأمة quot;الآي فونquot;، ومن هنا فهو جيل مختلف تماماً، إنهم يتواصلون بفعالية ويؤثر بعضهم على بعضٍ بسرعةٍ، ويضمن لهم quot;النتquot;، الذي هم مبدعون فيه مزيداً من التواصل والتعبير الصريح، بعيداً عن أي تخوفٍ أو توجس، فباستطاعتهم وعبر اسم مستعار ما أن يخلقوا شبكة تواصلٍ شديدة التأثير، تبني مصداقيتها وقوتها عبر كمية المعلومات التي ينشرون والتحليلات التي يتبنّون، وكذلك الاتفاق على التحركات كما رأينا في المظاهرات القائمة في مصر اليوم.

إنّ الجسر الواصل بين مواقف جيل العولمة الافتراضية وتأثيرهم في الواقع جسر بدأ في الاتساع وبدأت التجارب التي قام بها، تتخذ من تونس مثالاً نموذجياً، وتتخذ من الجزائر والأردن واليمن تجارب مماثلة، وتتخذ من مصر أخطر التجارب، وربما اتصل هذا لغيرها من البلدان لا في العالم العربي وحده في العالم الثالث أجمع.

إنّ جيل العولمة هذا ذو وعي ينتمي للعالم الأول من حيث المفاهيم الواعية واللاوعية التي تحرّكه ومن حيث الوسائل التي يعبّر بها عن نفسه، وهو جيل ينبغي أن تكون له الأولوية في العناية والرعاية والفهم والتعامل، وهو ما لم يحدث في مصر حتى الآن.

غير أنّ هذا الجيل مع انخراطه مفاهيمياً وأدواتياً في العالم الحديث إلا أنّه قابل بحكم سنّه وحماسته للانجراف السريع خلف الشعارات الرنّانة والحركات التي تنشد التغيير أياً كان شكله أو نوعه، بمعنى أنّ له مستويين من الفهم والحراك: مستوى العالم من حيث مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ونحوها، ومستوى انخراطه في أي حركة تعبّر عن غضبه من وضعه المحلي وتململه منه وبحثه عن جديدٍ فيه، وأكثر هذا الجيل لا يدرك بشكلٍ واضحٍ الأبعاد الحقيقية للصراعات الدولية أو الإقليمية ولا وسائلها ولا أساليبها ولا أهدافها، وليست لديه القدرة الكاملة على قراءتها وفهمها فضلاً عن تمحيصها، ولهذا يمكن أن يكون مركباً سهلاً لأي تيارٍ أو جماعةٍ أو فردٍ يستطيع جذبهم والتأثير فيهم وبهم، وعن حجم هذا الجيل في مصر جاء في quot;العربيةquot; بأنّ أكثر المدوّنين على مستوى العالم هم من المصريين.

من هنا يثور تساؤلٌ مشروعٌ حول إمكانية ركوب هذه المظاهرات الشبابية من قبل جماعات quot;الإسلام السياسيquot; أو الأحزاب العريقة الأخرى وتجيير تحرّكها لمطالب هذه الجماعات أو الأحزاب، خاصة أنها جماعات وأحزاب ذات تاريخ طويل وتنظيماتٍ محكمةٍ، ولديها رصيد من التجربة الواقعية في التعامل مع هكذا واقع.

ربما كان هذا الجيل لا يمتلك التجربة والتاريخ وربما الوعي الكافي، ولكنّهم يملكون التأثير في الواقع، وبقدرتهم حين عبور الجسر بين الافتراضي والواقعي أن يكون لهم تأثير ضخم جداً كما تقدّم، ولكنّ هذا الجيل يعبر عن نفسه وغضبه منذ فترةٍ، فهل يعي السياسي سواء كان حزباً أم قائداً فرداً أنه يجب عليه أولاً أن يفهم هذا الجيل وتفكيره وطموحاته، وثانياً أن يعرف كيف يمكنه التعامل معه، وثالثاً ما هي القرارات المهمة والقوية التي يمكن اتخاذها لمواكبة هذا الجيل، وتحقيق جزء مهم من غاياته ضمن رؤية جديدةٍ وفاعلةٍ ومؤثرةٍ تضمن ألا ينفرط العقد وألا تضيع البوصلة في غياهب التيه.