برهوم جرايسي


من المؤكد أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، انتظر بشوق ظهور صورته بالحجم الكبير جدا على طول صفحات كبرى الصحف الإسرائيلية وهو يحتضن جندي الاحتلال الذي كان أسيرا في قطاع غزة، في سعيه الدائم لرفع أسهمه لدى الرأي العام الإسرائيلي؛ إذ معروف عنه هوسه بالظهور في وسائل الإعلام، وقراءة استطلاعات رأي تدعمه.
بطبيعة الحال، لن نذهب إلى هذا الحد من السطحية للقول إن نتنياهو صادق على صفقة تبادل الأسرى من أجل صورة وارتفاع في شعبيته، ففي نهاية المطاف يبقى المقرر الأساسي المؤسسة الأمنية العسكرية الإسرائيلية، مع حيز مناورة محدود للجهاز السياسي، وعلى رأسه الحكومة ورئيسها.
في قراءة لتفاصيل صفقة تبادل الأسرى نرى أنها بقيت على نفس الأسس المركزية التي وُضعت قبل ثلاث سنوات وأكثر، من حيث عدد الأسرى، وإطلاق سراح عدد من ذوي الأحكام الاحتلالية طويلة المدى. وعلى الرغم من ذلك، فإن نتنياهو يظهر في ساحة الرأي العام الإسرائيلي كمن يمسك بيده أوراقا رابحة، ومنها عدم إطلاق سراح القائدين مروان البرغوثي أمين سر حركة فتح السابق في الضفة الغربية المحتلة، وأحمد سعدات الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وعدد من القادة الميدانيين في حركة حماس.
وحملة التسويق الحكومية المباشرة وغير المباشرة للصفقة، لدعمها وتبريرها، اعتمدت على هذه الأسماء بالذات، وعرضت النتيجة كإنجاز لإسرائيل. ولهذا، ليس صدفة أن الشارع الإسرائيلي الذي بات يمنح أغلبية كبيرة جدا لليمين المتشدد، أيد الصفقة بنسبة أكثر من 80 %، مقابل معارضة 14 %، وهي نسب لا تنسجم مع أجواء التطرف السياسي التي تسود الشارع الإسرائيلي.
على مدى السنوات الخمس الماضية، كان واضحا بالنسبة لإسرائيل أنها ستدفع ثمنا باهظا، ولكن المؤسسة الأمنية، ومعها السياسية، راهنت على إمكانية تخفيف حدة الثمن، أو الوصول إلى معادلة تستطيع تسويقها بشكل quot;سلسquot; في الشارع الإسرائيلي. ولهذا الغرض زرعت بلبلة واضحة بالنسبة للموقف الحقيقي لدى المؤسسة الأمنية من إطلاق سراح أسرى فلسطينيين من ذوي الأحكام الطويلة، من أجل ضمان أغلبية للصفقة في الوقت المطلوب.
وتوقيت الصفقة إسرائيليا لم يكن صدفة؛ فهو جاء فور تلقي إسرائيل ضربة قوية جدية لم تعهدها منذ سنوات طوال في الحلبة الدولية على خلفية توجه منظمة التحرير الفلسطينية للأمم المتحدة بطلب عضوية فلسطين الكاملة في الهيئة الدولية، وأيضا على خلفية الجمود السياسي في المنطقة.
وفي نفس الوقت، وعلى مستوى الساحة الداخلية، تعكّر المزاج الشعبي في إسرائيل على خلفية الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، واتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية، رغم أنها لم تهدد بقاء الحكومة إطلاقا.
بعد أيام قليلة سيفتتح الكنيست دورته الشتوية التي ستستمر زهاء ستة أشهر، وهي فترة من المفترض أن يشتد فيها الحراك السياسي. وكل حراك شعبي في هذه الفترة سيكون صداه أقوى من أي فترة أخرى، وقد يكون نتنياهو أخذ بالحسبان هذه المعادلة. ولهذا فإنه سيفتتح الدورة الشتوية بخطاب سياسي يحمل فيه عدة رسائل، ومنها أنه اجتاز شهر أيلول (سبتمبر) بدون إحداث الضرر الذي كان يتوقعه البعض لإسرائيل، وأن الضغوط الدولية لم تكن بالقدر الذي توقعه خصوم نتنياهو الإسرائيليون. أما رسالته الثانية، فهي أنه هو فقط، بصفته زعيما لليمين المتشدد، قادر على إبرام صفقة تبادل أسرى وإعادة جندي حي إلى بيته.
وهاتان الرسالتان كفيلتان بمساعدته في مواجهة حملة الاحتجاجات الشعبية على الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية، التي سيواجهها بسلسلة معطيات ليست سيئة نسبيا عن الاقتصاد الإسرائيلي. ففي الأسابيع القليلة المقبلة، سيظهر تقرير الفقر السنوي الذي تصدره مؤسسة الضمان الاجتماعي الرسمية، وسنقرأ مجددا المعطيات التي تتكرر في السنوات الأخيرة: هبوط معدلات الفقر إلى أدنى مستوياتها بين اليهود في إسرائيل، وتسجيلها ذروة جديدة بين العرب في إسرائيل.
في كل الأحوال، لم يكن أي خطر حقيقي يتهدد حكومة نتنياهو في الدورة الشتوية المقبلة، ولكن تطورات الأسابيع الأخيرة عززت أكثر قوة نتنياهو، وفق موازين القوى القائمة في إسرائيل حاليا. ومنعا لأي التباس، فإن هذا الاستنتاج قائم على القراءة الإسرائيلية للتطورات، ولا يعني إطلاقا أن الصفقة لم تكن جيدة فلسطينيا.
الغد