فايز سارة
بين وقت وآخر تطالعنا تصريحات أو دراسات ومقالات تحمل مخاوف على مستقبل المسيحيين في سوريا، ومنذ انطلاق حركة الاحتجاج والتظاهر في مارس (آذار) الماضي، والتي تحولت إلى ثورة شعبية واسعة، تزايد الحديث عن المخاوف، وصار الحديث عنها جزءا من الحديث عن الثورة والمستقبل، وهو حديث لا يمكن فصله عن أحداث وتطورات شهدتها بلدان المنطقة في العقود الأخيرة، والتي برزت فيها مخاوف جدية وأخرى مصطنعة حول الوجود المسيحي في بلدان المنطقة، وبصورة أقل حول الوجود المسيحي في سوريا.
إن الأبرز والأهم في أحداث المنطقة وتطوراتها، التي أثرت في مخاوف المسيحيين السوريين على وجودهم ومستقبلهم، يمكن رؤيته في أربعة تطورات أساسية، أول هذه التطورات ما أحاط بالوجود المسيحي في فلسطين، حيث أدت سياسة إسرائيل وسط صمت إقليمي ودولي إلى تهجير وطرد أغلب المسيحيين خارج وطنهم، بمن فيهم مسيحيو القدس، وقد تم تمرير تلك السياسة وسط أقل قدر من الضجيج وبأساليب استطاعت من خلالها إسرائيل تمرير سياساتها من دون أن تترك ردود فعل إقليمية ودولية معترضة ورافضة لعملية إبعاد وتهجير الفلسطينيين، وكان التطور الثاني ممثلا بما حدث في لبنان من مجريات حرب أهلية بين عامي 1975 و1990، والتي لبست في أحد التعبيرات طابع حرب بين المسيحيين والمسلمين، وقد أدت في نتائجها إلى إعادة صياغة الواقع اللبناني وتوازناته الدينية والطائفية، وكان من نتائجها إضعاف موقع المسيحية السياسية وخروجها من موقع القيادة الأولى للتوزع حول محوري المسلمين السنة والشيعة.
أما التطور الثالث فكان بروز التطرف والتحريض الديني في العديد من دول المنطقة مع بداية السبعينات، وتصاعده بدعم ظاهر وضمني من أجهزة وهيئات رسمية في العديد من الدول، وقد أدى هذا التطور إلى احتقانات وصدامات في العديد من الدول بين المسلمين والمسيحيين على نحو ما صار إليه الوضع، خاصة في مصر والسودان، حيث توجد أعداد كبيرة من المسيحيين في عداد مواطني البلدين. والتطور الرابع يمثله ما حدث في العراق بعد الحرب الأميركية عليه في عام 2003، والتي كان من نتائجها استهداف المسيحيين هناك، وهي عملية غلبت عليها الطبيعة الإجرامية، وأن لم تخل من أسباب دينية - طائفية، وكان من نتائجها تهجير وإبعاد قسم كبير من مسيحيي العراق خارج وطنهم في خطوة تكاد تماثل ما أصاب المسيحيين في فلسطين.
وسط تلك التطورات يمكن فهم الأساس في مخاوف وخوف مسيحيي سوريا على وجودهم ومستقبلهم. غير أنه لا ينبغي الذهاب بعيدا حول تأثير هذه التطورات، لأن مسيحيي سوريا لم يتأثروا بصورة مباشرة بما نتج عن تلك التجارب والوقائع، بل إنهم على العكس، استطاعوا ليس الحفاظ على استقرار أوضاعهم، بل رؤية مجموعهم السوري وهو يقدم الدعم والمساندة لإخوانه من مسيحيي فلسطين ولبنان والعراق ويحتضنهم في محنتهم، ويساعدهم على تجاوز بعض ما أحاط بهم، فقدم موئلا آمنا لكل من قصده من مسيحيي الجوار.
وإذا كانت التطورات الإقليمية محدودة التأثير على مسيحيي سوريا، فإن هذا ينقلنا إلى التطورات والعوامل الداخلية، وأغلبها تطورات وعوامل لا تخص المسيحيين وحدهم، إنما تخص مجموعهم السوري كله نتيجة عوامل متداخلة، جعلت من المسيحيين مندمجين في سياق التركيبة السكانية السورية في بعديها البشري والاقتصادي، كما جعلتهم مندمجين في البنى السياسية والاجتماعية والثقافية مع محيطهم العام، وإن كان ذلك لا يعني أنهم ليست لهم خصوصيات يمكن رؤية أبرزها في إطار غلبة صفة الفئات الوسطى على وجودهم، ولهذا الوضع أسباب منها النسب الأعلى للتعليم في أوساطهم، وهو أمر ينطبق على المهن أيضا، ومحدودية عدد أفراد الأسرة، وتوجه النساء نحو العمل، وارتفاع معدلات الدخل ومستويات المعيشة وغير ذلك.
إن أوضاع أغلبية المسيحيين السوريين العامة والمعيشية تجعلهم أميل إلى الاستقرار، مثلهم في ذلك مثل معظم الفئات الوسطى السورية، لا سيما المتمركزة في دمشق وحلب، وهي الفئات التي تظهر قلقها إزاء المستقبل خاصة في ظل ما تشهده سوريا من أحداث وتطورات لا يظهر لها حسم قريب.
ووسط هذا الوضع العام، تدخل تفصيلات يتم الاشتغال عليها من جانب النظام وأطراف داخل المجتمع بصدد المسيحيين السوريين، أولاها النظر إليهم باعتبارهم laquo;أقليةraquo; في إطار تقسيم سوريا إلى أكثرية وأقليات، وهي فكرة تستوجب سعي كل واحدة من الأقليات إلى تأمين laquo;حمايةraquo;، وهذه يمكن أن يوفرها النظام الحالي طبقا لما يشاع. ورغم أن هذه الفكرة لا تتوافق مع الواقع في كثير من حيثياتها وتفاصليها، فإنها يجري تدعيمها مع فكرة التخوف من حكم الأكثرية الإسلامية السنية، واحتمال إقامة نظام يستند إلى الشريعة الإسلامية، مما يعني هضم حقوق وربما اضطهاد المسيحيين، وربما الأسوأ في هذه المنظومة نشر إشاعات تثير مخاوف المسيحيين بالتزامن مع بروز بعض تعبيرات ذات صبغة دينية في أوساط المجتمع ذي الأغلبية الإسلامية، وفي أوساط بعض المتظاهرين، وكلها تدفع نحو وقوف المسيحيين إلى جانب النظام في ضوء ما يجري في سوريا.
ومما لا شك فيه أن منظومة تخويف المسيحيين من المستقبل لا تصمد أمام حقائق موازية، لعل الأبرز فيها أن المسيحيين في سوريا جزء مندمج في محيطه، وأنهم ما زالوا يلعبون دورا في مسار ريادي أسهموا فيه بقوة من أجل التحرر القومي والمعرفي عبر القرن الماضي، والذي ثبت خلاله تعايشهم وتفاعلهم مع محيطهم الاجتماعي والسياسي بما فيه الجماعات الإسلامية، فيما تستمر نخبة منهم حاليا في المشاركة في حراك التغيير، بالتزامن مع تأكيد مجموعهم السوري وحرصه أكثر من أي وقت مضى على وجودهم وحضورهم في حاضره ومستقبله، ليس فقط من خلال الشعارات التي يرفعها المتظاهرون حول سلمية الثورة، ولا في تأكيد مسارها نحو تعزيز الوحدة الوطنية للسوريين جميعا، بل من خلال تأكيد أن الهدف النهائي لحراك التغيير الحالي يسير باتجاه دولة ديمقراطية مدنية، توفر العدل والمساواة والمشاركة تحت سيادة القانون لكل مواطنيها، وهو توجه من شأنه الإطاحة بكل مخاوف وتخوفات المسيحيين السوريين إزاء المستقبل.
التعليقات