عصام نعمان
جيوش أمريكا ستخرج من العراق قبل نهاية العام الجاري ليحتفل الجنود مع عائلاتهم بعيد الميلاد . هذا ما أعلنه الرئيس باراك أوباما أخيراً، فهل يعقل أن تتخلى الولايات المتحدة عن العراق بهذه السرعة والسهولة؟
الجواب: نعم ولا في آن . نعم، لأن لديها من الأسباب السياسية والاقتصادية ما يحملها على الخروج . لا، لأن لديها من المصالح النفطية والمتطلبات الأمنية ما يدفعها إلى البقاء عسكرياً بشكل مغاير .
سياسياً، يحتاج أوباما إلى عودة سريعة لمعظم قواته من أجل تعزيز حملته الانتخابية الرامية إلى الفوز بولاية رئاسية ثانية . اقتصادياً، تكلّفت أمريكا من جرّاء غزوها العراق واحتلاله ما يزيد على 4400 قتيل، و000 .30 جريح و3 تريليونات دولار حتى نهاية عام ،2008 وهو تاريخ عقدها اتفاقاً أمنياً مع حكومة نوري المالكي تنتهي مدته آخر العام الجاري . وهي غير قادرة على تحمّل المزيد من الخسائر البشرية والمادية مع استمرار الأزمة المالية والاقتصادية التي مازالت تعصف بها منذ صيف عام 2008 .
غير أن ثمة تحديات سياسية واقتصادية واستراتيجية تدفع الولايات المتحدة إلى الإبقاء على وجود عسكري فاعل في بلاد الرافدين . ذلك أن خروجها الكامل سيخلّف، في نظرها، فراغاً سياسياً وأمنياً لن تتأخر إيران، من خلال تعاونها مع القوى العراقية الحليفة، عن ملئه . هذا التطور الاستراتيجي سيؤدي بدوره إلى توطيد التحالف القائم بين إيران وسوريا وقوى المقاومة العربية في لبنان (حزب الله) وفلسطين (حماس) . ذلك كله يهدد مصالح أمريكا النفطية وأمن ldquo;إسرائيلrdquo; على المدى الطويل ويضعها تحت رحمة قوة إقليمية مركزية تتمحور في إيران وتسيطر على فضاء الاتصالات والمواصلات وخاصةً خطوط نقل النفط براً وبحراً من إيران على شواطئ الخليج والمحيط الهندي، إلى لبنان وفلسطين على شواطئ شرقي البحر المتوسط، مروراً ببلاد الرافدين وبلاد الشام، أي قلب الشرق الأوسط .
في ضوء هذه الحاجات والضرورات، أعدت واشنطن مخططاً لاستبقاء حضور عسكري فاعل في العراق يساعدها في دعم مخططها الآخر الجاري تنفيذه والرامي إلى إخراج سوريا من تحالفها مع إيران وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية أو استنزافها، في الأقل، بإشاعة الاضطرابات والفوضى في ربوعها على نحوٍ يشلها تماماً ويجعل نظامها غير قادر على الوفاء بموجباته تجاه حلفائه الممانعين والمقاومين في المنطقة .
كيف تأمل واشنطن بالوصول إلى أغراضها؟
لعل نظرةً متأنية إلى ما جرى ويجري في العراق أخيراً تلقي أضواء كاشفة على غايات أمريكا ووسائلها في هذه المرحلة . فقد شنت حكومة المالكي حملة اعتقالات واسعة شملت 615 شخصاً في أنحاء شتّى من البلاد بدعوى أنهم بعثيون أعادوا تنظيم حزبهم ويعملون مع حلفائهم في الجيش للقيام بانقلاب عسكري . وبلغت كثافة الاعتقالات في محافظة صلاح الدين وتغوّلها حداً حمل مجلس المحافظة على اتخاذ قرار بإعلان المحافظة إقليماً مستقلاً إدارياً واقتصادياً، كما لوّح مجلس محافظة الأنبار باتخاذ قرارٍ مماثل .الحقيقة، إن البعثيين المقيمين، كما الموجودين في الخارج الذين يعتزمون العودة فور خروج الأمريكيين، غير قادرين وحدهم، أقلّه في الوقت الحاضر، على إنجاح إنقلاب عسكري . من هنا يميل مراقبون عراقيون مستقلون إلى تفسير سلوكية حكومة المالكي بأنها استفزازية وترمي إلى استنفار القوى السياسية الموالية، خصوصاً تلك الصديقة لإيران، من أجل استعادة تضامنها لمواجهة تحديات الوضع بعد خروج الأمريكيين . فريق آخر من المراقبين يوافق على التفسير الآنف الذكر، لكنه يربطه أيضاً بتحركات موازية لقوى سياسية عراقية موالية للولايات المتحدة، عربية إسلامية وكردية متنوعة، ترغب في استبقاء الحضور العسكري الأمريكي وإن كان بعضها يتحرّج في إعلان ذلك .
في هذا السياق، يشير هؤلاء المراقبون إلى ظاهرات عدة تؤيد ما يذهبون إليه . فقد تزايدت مؤخراً العمليات والتفجيرات الأمنية، الهادفة والعشوائية، ذات الطابع المذهبي بقصد تأجيج الفتنة الطائفية والحرب الأهلية . ثم إن القادة الأكراد في الشمال ضاعفوا دعمهم العلني لاستبقاء الحضور العسكري الأمريكي، فيما شدّ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني الرحال إلى أنقرة للتباحث مع المسؤولين الأتراك في هذه المسألة .
إلى ذلك، يربط بعض المراقبين الاضطرابات الأمنية العراقية المتزايدة بمخطط أمريكي تركي للتدخل في سوريا عن طريق إقامة جيوب متمردة على طول الحدود التركية السورية بدءاً من منطقة الحسكة الحدودية، حيث يكثر الأكراد السوريون، وصولاً إلى منطقة الإسكندرون شمال محافظة إدلب السورية . ويشير هؤلاء إلى ما نشرته أخيراً صحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo; عن استضافة تركيا مجموعة معارضة مسلّحة ضد النظام السوري، وتوفير المأوى والحماية لقائد المجموعة، العقيد رياض الأسعد، وللعشرات من عناصر ما يسمى ldquo;الجيش السوري الحرrdquo;، في معسكر يحرسه الجيش التركي، والسماح لهم بشن هجمات عبر الحدود .
الكاتب والناشط السياسي العراقي الدكتور عبدالحسين شعبان يذهب إلى أبعد مما ذهب إليه المراقبون العراقيون المستقلون . فهو يعتقد أن إيران، وإن كانت تفضّل إنهاء الحضور العسكري الأمريكي في العراق، إلاّ أن بعضاً من قادتها العسكريين لا يخشون استمراره . ذلك أن أية قوات أمريكية تبقى في بلاد الرافدين ستكون رهينة نموذجية لإيران في حال شنّت الولايات المتحدة الحرب عليها . ويقول شعبان إن المالكي وحلفاءه يدركون هذه الحقيقة ويتصرفون بالتالي وفقاً لمقتضياتها . فماذا عساها تكون؟يبدو أن المالكي وحلفاءه لا يمانعون في بقاء الأمريكيين وفق صيغة ملطّفة يمكن تسويقها بأدنى تكلفة سياسية ممكنة . لعل موافقتهم الضمنية هذه هي وراء الحملة الاستباقية الواسعة على البعثيين المعارضين لأية صيغة محتملة لاستبقاء الحضور العسكري الأمريكي في البلاد . وفي هذه الحال، سيجد البعثيون أنفسهم، ويا للمفارقة، يواجهون مع خصومهم الصدريين عدواً مشتركاً يتعشّقون كراهيته .
التعليقات