محمد ولد المنى

عادت الأنظار إلى ميدان التحرير في مصر مجدداً، بعدما تعالت الأصوات فيه منادية بثورة أخرى تستكمل ثورة 25 يناير، وتقطع مع العهد السابق، وتقلص المرحلة الانتقالية، وتنهي ما بدا تلكؤاً من المجلس العسكري الحاكم، ومحاولاته إيجاد دور للجيش في المعادلات السياسية لما بعد المرحلة الانتقالية... فتردد الحديث عن حكومة إنقاذ وطني، ومجلس رئاسي مدني. وكدلالة على خطورة الموقف الحالي، قدمت حكومة شرف استقالتها، ونفى المجلس العسكري أي نية لديه للبقاء في السلطة، وأكد التزامه بأجندة المرحلة الانتقالية، وأولها الانتخابات البرلمانية المقرر تنظيمها اليوم الاثنين.

وفي هذا اللحظة المفصلية والملتهبة من تاريخ مصر، عاد للتداول اسم الدكتور كمال الجنزوري، رئيس الوزراء الأسبق، بعد تكليفه من طرف المجلس العسكري بتشكيل حكومة مؤقتة. وفي أول ظهور إعلامي له، قال الجنزوري، يوم الجمعة الماضي، إنه قبل التكليف بعد أن تيقن من أمرين: رغبة رئيس المجلس العسكري في عدم الاستمرار، وحصول حكومته المنتظرة على الصلاحيات اللازمة كافة. وكما أبدى انفتاحه على جميع القوى السياسية، وقال إن حكومته لن تتشكل قبل الانتخابات البرلمانية المقرر إجراء مرحلتها الأولى اليوم، فقد طالب المحتجين بإعطائه فرصة لإنقاذ البلاد مما هي فيه الآن. لكن هل سيجد نداء الجنزوري آذاناً صاغية في ميدان التحرير؟ وهل ستكون حكومته قادرة على العبور الآمن بالبلاد إلى ما بعد المرحلة الانتقالية؟

لم يسهم خبر تعيين الجنزوري رئيساً للوزراء في تهدئة الشارع وإقناع المعتصمين في ميدان التحرير، بل تجمع مئات المتظاهرين أمام مقر الحكومة لمنعه من الدخول، معتبرين تكليفه مثالاً آخر على استهانة المجلس العسكري بآراء شباب الثورة الذين طالبوا بحكومة إنقاذ وطنية ائتلافية، تمثل الثورة وتضم كل التيارات السياسية، وليس بحكومة يرأسها أحد رجالات quot;العهد البائدquot;! وكانت هذه مناسبةً لإعادة فتح ملفات الجنزوري، وسيرة حياته العامة. فالرجل الذي خرج من منصب رئيس الوزراء قبل حوالي 12 عاماً، ويعود إليه الآن وسط تقلبات تعصف بالمشهد السياسي في مصر، وبالتزامن مع انتخابات تعتبر الأهم في تاريخها الحديث، ولد عام 1933 في قرية جروان بمحافظة المنوفية، وتخرج من كلية الزراعة بجامعة القاهرة، ثم حصل على الدكتوراه في الاقتصاد وعلوم الإدارة من جامعة ميشيجان الأميركية، ليتقلد العديد من المناصب العليا في عهدي السادات ومبارك.

بعد عودته من الولايات المتحدة، انخرط الجنزوري في العمل الأكاديمي، وأصبح أستاذاً في معهد التخطيط، وعضواً بمجلس إدارة أكاديمية السادات للعلوم الإدارية. أما بدايته الأولى مع العمل السياسي فكانت تعيينه عضواً في هيئة مستشاري رئيس الجمهورية عام 1974، ثم في العام نفسه أصبح وكيلاً لوزارة التخطيط، فمحافظاً للوادي الجديد (1976)، ثم محافظاً لبني سويف (1977)، فمديراً لمعهد التخطيط عام 1977. وبعد خمس سنوات من ذلك التاريخ سيصبح الجنزوري وزيراً للتخطيط في حكومة الدكتور عاطف صدقي، ثم وزيراً للتخطيط والتعاون الدولي في الحكومة ذاتها (1984)، وبعد ذلك نائباً لرئيس مجلس الوزراء ووزيراً للتخطيط (1987)، قبل أن يختاره مبارك لرئاسة مجلس الوزراء خلفاً لصدقي في يناير 1996.

لكن في أكتوبر 1999، أُقيل الجنزوري من رئاسة الحكومة في ظروف غامضة، وبشكل اعتبرته الصحف المصرية آنذاك مهيناً، لاسيما وقد أقاله مبارك من جميع مناصبه في وقت واحد، ولم يمنحه مكافأة نهاية الخدمة أو أي منصب استشاري بعد خروجه من الوزارة، على غير عادته مع رؤساء الوزارات السابقين من رجاله المخلصين. بل زاد على ذلك بأن ضرب حوله طوقاً من العزلة الإعلامية والسياسية، ليبقى طيلة السنين اللاحقة على خروجه quot;الغامضquot;، في الظل والصمت، وإن تردد اسمه أحياناً فباعتباره أشهر الصامتين أو بوصفه أحد ضحايا صراع السلطة في ذلك العهد. لكن الجنزوري خرق الصمت بعد ثورة 25 يناير التي أسقطت مبارك، وظهر في أحد البرامج التلفزيونية، وقال إن النظام المخلوع ضيق عليه وحاصره إعلامياً بعد مغادرته الوزارة، واشتكى متألماً من أنه لم يتلق مكالمة هاتفية واحدة من أي وزير كان في حكومته. أما تنحيته فقال إن سببها كان ارتفاع شعبيته في الشارع، والتي صوّرها البعض لمبارك على أنها منافسة لصورته.

ولا يزال كثير من إنجازات الجنزوري مثار جدل وخلاف بين آراء متباينة. فقد كان أحد واضعي الخطة العشرينية للأعوام 1983 -2003، والتي هدفت إلى دعم الاقتصاد المصري ورفع معدلات التنمية عبر توسيع القاعدة الصناعية والزراعية والتحكم بسياسات الخصخصة. وبعد توليه رئاسة الوزراء، كان أهم أهدافه توسيع الرقعة الزراعية لمصر، وكان صاحب عدد من المشاريع العملاقة مثل مشروع توشكي، ومشروع تعمير سيناء، ومشروع غرب خليج السويس، علاوة على إنجازه مشروع الخط الثاني لمترو أنفاق القاهرة. وقد أدت سياساته الاقتصادية إلى زيادة شعبيته في أوساط المصريين، حتى أطلقت عليه الصحف آنذاك لقب quot;وزير الفقراءquot;، لدوره الرقابي على ممارسات الحكومة، ولرفضه طاعة تعليمات الممولين الدوليين أحياناً.

ورغم أن كثيراً من quot;مشاريعquot; الجنزوري لم تكتمل بسبب خروجه من الحكومة، فإنه فيما ينظر إليها البعض باعتبارها خططاً تنموية quot;قوميةquot; طموحة، ينتقدها البعض الآخر قائلين إنها بذّرت كثيراً من المال العام دون أن تسهم في التنمية، بل مثلت في واقع الأمر غطاءً لممارسة الفساد، الفساد الذي قال عنه الجنزوري نفسه -عقب نجاح الثورة- إنه كان وراء إقصائه. كما ينتقدون انسياقه وراء وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين، وسياسات الخصخصة التي أدت إلى تصفية القطاع العام وعمليات بيعه التي أفقرت قطاعات واسعة من المجتمع وخسرت فيها مصر أموالاً طائلة.

وإذا كان الموقف من سياسات الجنزوري الاقتصادية، موقفاً خلافياً إلى ذلك الحد بين من عاصروه وعايشوا حكومته، فإنه يبقى مجهولاً لدى نسبة معتبرة من الشباب المصري، صانعي الثورة ومحركي الاحتجاجات الحالية، إذ كانوا أصغر سناً من أن يكوّنوا عنه رأياً متكاملاً حين كان على رأس الحكومة، خاصة أنه اختفى عن الساحة السياسية والإعلامية طيلة السنين اللاحقة على مغادرته الوزارة. ومن هنا يتساءل البعض عن وجه المعقولية في تعيين رجل في عقده الثامن رئيساً لحكومة تستمد مشروعيتها الوحيدة من ثورة الشباب!