ياسر الزعاترة

تعرض العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لهجمة شرسة، تجاوزته إلى جماعة الإخوان المسلمين، بسبب تعرضه في رسالة للعاهل السعودي لمسألة قيادة المرأة للسيارة. وكان الشيخ قد ثمَّن خطوة تعيين نساء في عضوية مجلس الشورى السعودي، متمنيا أن تتبعها خطوة أخرى تتمثل في السماح للمرأة في المملكة بقيادة للسيارة، الأمر الذي استفز قطاعا من علماء المملكة الذين لم يرفضوا الموقف وحسب، ولم يرفضوا تدخل الشيخ في شأن داخلي بحسب رأيهم أيضا، بل وصل الأمر إلى حد الهجوم على جماعة الإخوان بوصفها laquo;غير صافية العقيدةraquo; بحسب الشيخ صالح اللحيدان، مع رفض للمظاهرات التي قالوا إن القرضاوي يؤيدها بوصفها laquo;إفساد في الأرضraquo;.
من زاوية نظر شخصية، تمنيت لو أن الشيخ لم يتدخل في الأمر برمته، لا فيما يتعلق بعضوية المرأة في مجلس الشورى، لاسيَّما أنها قضية محدودة التأثير في مجلس معين جاءت في ظل الربيع العربي ومطالبه المعروفة، ولا في الموضوع الآخر، أعني قيادة المرأة للسيارة، وبالطبع بسبب ردة الفعل المتوقعة من قبل العلماء المحافظين في المملكة ممن يصرون على رفض الأمر من دون دليل شرعي مقنع، أقله من وجهة نظرنا.
والحق أن قيادة المرأة للسيارة في المملكة هي قضية تتعلق بالحراك الاجتماعي الطبيعي في مجتمع محافظ، وعاجلا أو آجلا سيتخذ القرار (وزير الخارجية قال لصحافية أميركية زارت المملكة إن عليها إحضار رخصتها الدولية معها في الزيارة القادمة)، تماما كما وقع مع قضايا أخرى رفضها كثيرون في المجتمع (خاصة بعض العلماء)، ثم ما لبثوا أن تعاملوا معها بمرور الوقت بعد إقرارها رسميا، مع العلم أن القطاعات الشرعية في المملكة التي ترى الجواز أو تطالب بإنجاز الخطوة هي أكثر من القطاعات الرافضة، وفي السنوات الأخيرة ظهرت أصوات مهمة في المملكة تطالب بذلك، وبدت حججهم الشرعية والاجتماعية والاقتصادية أكثر إقناعا (أيضا من وجهة نظرنا على الأقل).
أيا يكن الأمر، فلو توقف النقد عند رفض تدخل الشيخ في شأن داخلي لكان الأمر مفهوما بعض الشيء، لكنه تجاوز ذلك إلى اتهام الإخوان بأنهم جماعة laquo;غير صافية العقيدةraquo; رغم أن كتبهم التي يدرِّسونها في العقيدة تتطابق مع الرؤية السلفية (الوهابية) لقضايا الاعتقاد، من دون أن يتم التشديد على الأمر وجعله مناطا لعضوية الجماعة التي تتوفر فيها آراء شتى في قضايا الفقه والاعتقاد، فضلا عن السياسة الشرعية. أما الأهم هنا فهو أن الشيخ لا يتحدث باسم الإخوان، بل يقدم نفسه عالما لكل الأمة (من يقبل به من أهل السنة بالطبع).
الأسوأ في السياق أن المعضلة التي رآها القوم في كلام الشيخ ممثلة في التدخل في شأن داخلي لم يطبقوها هم في خطابهم الشرعي والسياسي، إذ إنهم دائمو التدخل في شؤون الآخرين عبر انتقاد المظاهرات والمسيرات وعموم النشاط السياسي السلمي الذي قام به الشارع العربي ضد الظلم والفساد، ولم يتركوا شأنا إسلاميا إلا وتحدثوا فيه، أحيانا بمنطق الوصاية على الحقيقة الشرعية برمتها، مع العلم أن طائفة كبيرة من علماء المملكة قد سجلوا حضورا بارزا ورائعا في قضايا الأمة يستحق الشكر والتقدير.
نأتي هنا إلى سؤال الشأن الداخلي لكل بلد، وهل ثمة حقا شعاب لا يعرفها إلا أهلها، أم أن الأمر في زمن العولمة والفضائيات وثورة الاتصالات و laquo;غوغل إيرثraquo; لم يترك خصوصية لأحد، فضلا عن أن الحديث هو في حقيقته يتعلق بالسهول والهضاب وليس بالشعاب كما ذهب أحد قيادات الإسلاميين ذات مرة!
عندما يتدخل بعضهم في كل شأن ديني يخص الأمة، وهو ما لا نعترض عليه على أية حال، فلا يجب عليهم أن يستكثروا على عالم بوزن الشيخ القرضاوي أن يفعل الشيء ذاته، أكان في السعودية أم في سواها، وهو في نهاية المطاف لم يزعم امتلاك الحقيقة المطلقة كما يدعي كثيرون سواه.
الأمة كلها شأن واحد، وتقسيمات الاستعمار ليست مقدسة حتى يغدو حديث عالم أو سياسي أو مفكر في شأن يخص دولة أخرى أمرا مرفوضا ومدانا، فكيف حين تكون الدولة بالغة الأهمية بالنسبة لعموم الأمة؟! وفي الشأن المصري مثلا لم يبق أحد لم يدل بدلوه, رغم أن مصر هي أكثر دولة عربية تمتلك علماء ومفكرين وسياسيين.
خلاصة القول إنه لم يعد بوسع أحد أن يحتكر النطق باسم الدين، ولا حتى باسم الأمة، فضلا عن أن يمعن في الآخرين تفسيقا وتضليلا. والعلماء والمفكرون يجتهدون في رأيهم، ويبقى الوعي الجمعي للأمة مؤهلا لمنح المكانة المناسبة لهذا العالم أو ذاك، وللناس أن يختاروا من الآراء ما يرتاحون إليه بعد ذلك.
الشيخ القرضاوي قامة علمية وفكرية كبيرة لم يحصل عليها عبثا، بل حازها بسبب علمه الغزير ومواقفه التي لم تداهن في قول الحق، وإذا كان للبعض ملاحظات عليه، فذلك أمر طبيعي لم يسلم منه عالم في يوم من الأيام.
ثمة مخاض فكري وسياسي تعيشه الأمة هذه الأيام، ومن الطبيعي أن تتعدد فيه الاجتهادات، لكن بوصلة الأمة تبقى الأكثر صوابا، وهي بوصلة لم تتغير في انحيازها لدينها ورفضها للظلم والفساد والاستهداف الخارجي.