وحيد عبدالمجيد


كثيرة هي التراكمات التي أنتجتها عقود من القهر والاستبداد والظلم في مجتمع تعرض إلي تجريف سياسي وثقافي واسع النطاقrlm;.rlm; وساعد هذا التجريف علي شيوع ثقافة مجتمعية غير ديمقراطية هي أكثر ما يعوق الانتقال إلي نظام سياسي جديد يشارك كل مصري في بنائه بدءا بالانتخابات البرلمانية الجارية التي أكدت استعداد شعبنا لهذه المشاركة.

وعندما تكون الثقافة السائدة في المجتمع بعيدة عن الديمقراطية, تقل مساحة الحوار الجاد والمرونة السياسية والثقة المتبادلة والمشتركات الوطنية, وتزداد بالتالي مساحة السجالات الصاخبة والتخندق والتمترس والشكوك والتربص والبحث عما يفرق والنفور مما يجمع. وهذا هو ما يطلق عليه quot;عقلية الأسود والأبيضquot; حيث يسود الاستقطاب, ويكون quot;من ليس معي ضديquot;, عوضا عن الذهنية التي تبحث عن الاعتدال وتحفظ تماسك المجتمع وتوفر بيئة صالحة للممارسة السياسية الطبيعية التي لا يفسد الخلاف فيها الود إلا في أقل الحدود أو علي سبيل الاستثناء. والحال أننا نبدأ مرحلة جديدة في ظل ثقافة غير ديمقراطية جعلت مشهد التوافق الرائع خلال أيام الثورة الثمانية عشر لحظة عابرة خارج السياق العام وكأنها حلم أو طيف جميل انتهي بأسرع مما بدأ.
فقد عاد من توافقوا وتناغموا واتسع صدر كل منهم لغيره إلي التناحر والاستقطاب بمعدلات أعلي مما كان قبل الثورة. فقد ازدادت المخاوف المتبادلة, ونشطت آلة صناعة الاستقطاب وماكينات التخويف والتفزيع فعملت بأقصي طاقة مستغلة البيئة الثقافية المواتية ومحققة نتائج مدهشة بلغ بعضها مبالغ الخيال حين يسعي بعض من ناضلوا في سبيل الديمقراطية إلي إنتاج قبضة حديدية جديدة, لكي لا يصل منافسوهم إلي الحكم.
وظهر بوضوح أن الثقافة السائدة لا تسمح باستيعاب أبسط ما في الفكرة الديمقراطية, وهو أنه لا أغلبية سياسية دائمة ولا موازين قوي ثابتة, وأن السلطة التي يتم تداولها وفقا لاختيار الناخبين لا تبقي لأحد ولا يمكن حجبها عن التداول مادام الشعب حاضرا, وأن الناخبين الذين يذوقون حلاوة الاختيار الحر والصوت المؤثر لا يفرطون في حقهم الأصيل في محاسبة السلطات العامة وتغيير القائمين عليها. ففي غياب ثقافة الديمقراطية, لا يكون التحرر من ميراث طويل من التسلط والاستعباد سهلا ولا الطريق إلي الحرية قصير. وفي مثل هذه الظروف, وبسبب هيمنة ذهنية االأسود والأبيضب, يعتقد االبعضب أن التفاهم بين طرفين تواطؤ وتآمر, وأن الخلاف في الرأي أو الموقف ليس إلا صداما أو مواجهة.
فإذا حدث تفاهم ضمني بين فريقين, يمكن أن ينظر خصوم أحدهما إليه كما لو أنه موجه ضدهم. وإذا انقلب هذا التفاهم خلافا, قد ينظر إليه هؤلاء كما لو أنه صدام أو لعلهم يتمنونه كذلك.
ولعل هذا يفسر كيف تبدلت النظرة إلي العلاقة بين quot;الإخوان المسلمينquot; وحزبهم الحرية والعدالة والمجلس الأعلي للقوات المسلحة من النقيض إلي النقيض في غضون أشهر قليلة. فعندما تبنت جماعة quot;الإخوانquot; عقب الثورة موقفا ينزع إلي تهدئة الأوضاع سعيا إلي تحقيق استقرار اشتدت حاجة المجتمع إليه, وامتنعت عن المشاركة في الفعاليات والمظاهرات التي دعت إليها أطراف أخري, نظر إلي هذا الموقف باعتباره تواطؤا مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة. ونشطت quot;نظرية المؤامرةquot; بحثا عن كلمة وردت في تصريح أدلي به شخص أو آخر, أو سطر جاء في بيان صادر عن الجماعة أو عن المجلس, لتأكيد أنهما اتفقا بليل لأخذ البلاد إلي حيث يريدان دون أن يعرف أحد الوجهة التي يمكن أن يتفقا عليها.
غير أن هذا السيناريو الخيالي انهار عندما بدأ quot;الإخوانquot; في نقد بعض سياسات ومواقف المجلس الأعلي, وصولا إلي تعاظم الخلاف بينهما عندما أعيد طرح وثيقة المبادئ الدستورية في أول نوفمبر الماضي متضمنة وضعا مميزا لهذا المجلس. ومع ذلك ظهر سيناريو لا يقل إمعانا في الخيال وخصوصا حين تصاعد هذا الخلاف وقرر حزب الحرية والعدالة عدم المشاركة في المجلس الاستشاري الذي شكله المجلس الأعلي أخيرا. فقد تنامي الحديث عن صدام بدأ أو سيبدأ, وعن مواجهة قادمة لا محالة, وعن معركة كسر عظم بين الطرفين اللذين قيل من قبل أنهما ليس فقط متفقين من وراء ظهر الجميع بل متواطئين.
ومثلما لم تساعد الثقافة السائدة علي استيعاب امكان أن يتوافق طرفان صراحة أو ضمنا علي أمر يرانه خيرا, فهي لا تعين علي إدراك أن الخلاف بين هذين الطرفين أو غيرهما يمكن أن يكون تعبيرا عن ممارسة ديمقراطية, وأنه لا ضرورة لصدام أو مواجهة ما دامت هناك قنوات مفتوحة لهذا التعبير.
ومن مفارقات quot;التطرفquot; في قراءة طبيعة العلاقة بين quot;الإخوان المسلمينquot; والمجلس الأعلي استدعاء ما يطلق عليه quot;عقدة 1954quot; باعتبارها دليلا علي تفسيرين متناقضين قال أحدهما بأن تلك العلاقة تقوم علي تواطؤ ويقول الثاني أنها تنحو إلي صدام أو مواجهة. والمقصود بهذه quot;العقدةquot; لدي من يستخدمونها أداة تحليلية أن تجربة الصدام الذي حدث بين جماعة quot;الإخوانquot; وقيادة ثورة 1952 بعد شهر عسل قصير لا تزال مؤثرة في سلوك هذه الجماعة.
فعندما كان تفسير العلاقة يقوم علي أن quot;الإخوانquot; متواطئون مع المجلس الأعلي, استخدمت quot;عقدة 1954quot; للدلالة علي أنهم محكومون بها ويسعون بالتالي إلي تجنب أي خلاف مع هذا المجلس حتي لا يتحول إلي صدام جديد.
أما بعد أن أصبح تفسير العلاقة يقوم علي أن quot;الإخوانquot; يتجهون صوب الصدام مع المجلس الأعلي, فقد استخدمت quot;العقدةquot; نفسها في اتجاه آخر تماما إذ يقال إنهم لا يستوعبون الدروس فيكررون أخطاءهم.
وحين يكون الفرق بين استخدامين متناقضين لأداة تحليلية واحدة أسابيع, وليس سنوات, لابد أن هناك خطأ في طبيعة الثقافة غير الديمقراطية التي يسودها االأسود والأبيضب.