غسان شربل


المكان بعيد جداً. قصر هائل لم يعرف الرواد مثيلاً له. الجدران حقول من المرايا والخشب العتيق. صالونات شاسعة. أجنحة ملكية. مطاعم فاخرة. مكتبات عريقة. أحواض سباحة. صالات سينما. قاعات مؤتمرات. ميكروفونات جاهزة. حمامات تركية. بخار وتدليك. ماء يتدفق في الداخل. شيء يُذكر بدجلة. أو بالنهر العظيم. وفي الخارج. حقول للرماية. غابات للصيد. ممرات معشبة لنزهة المساء. سيارات فارهة. حرس امبراطوري. أعلام البلدان المعنية.

إننا الآن في فندق الخالدين. يجب إبقاء العنوان سراً. لمنع المتظاهرين من تنظيم مليونية أمامه. لمنع المحكمة الجنائية الدولية من إلصاق مذكرات الإحضار على المدخل. لمنع المصورين والصحافيين من التجمهر على المداخل وترويج السيناريوات والأكاذيب.

كان المشهد مثيراً فعلاً. وصل الرفيق كيم جونغ ايل على عربة مدفع ملفوفاً بعلم بلاده. فجأة ترجل وأطلق ابتسامته. على شرفة الفندق كان في انتظاره رجل رشيق القامة بثياب زيتونية ومسدس. أطلق الرجل النار من بندقيته احتفاء بالزائر. كان اسم الرجل صدام حسين ولقبه laquo;حارس البوابة الشرقيةraquo;. في هذه الأثناء تقدم لمعانقة كيم رجل بملابس أفريقية مزركشة. غريبة قصة هذا الرجل. لم يصدق أنهم قتلوه. وتفننوا في تعذيبه على غرار ما فعل بمعارضيه. يُصر على اعتبار إقامته موقتة. سمعوه يقول إنه ليس رئيس دولة ليُقتل ويُدفن وينتهي الأمر. إنه قائد ثورة وبلاده ستستدعيه قريباً. حاول مدير الفندق إقناعه بالاستغناء عن خيمته ولم يُفلح.

مشى كيم الابن في الصالون الطويل. ثم ألقى بوجهه على صدر أبيه. غالب كيم ايل سونغ دموعه. ثم أفسح المجال ليتمكن الوافد من السلام على ماوتسي تونغ وجوزف ستالين. لم يتغير ماو كثيراً. لا يزال يحتفظ بغروره وكسله. أزعجه أن الصينيين يفضلون الدولارات على الوصفات الواردة في laquo;الكتاب الأحمرraquo;. وأن القادة الحاليين يُشبهون موظفين في البورصة بعدما حوٌلوا المكتب السياسي إلى مجلس إدارة. ستالين يزداد وحدة ووحشة. سمعوه يُهدد بتعليق جثة ميخائيل غورباتشوف على مداخل الكرملين. عارض نصب كاميرات في أروقة الفندق. يُصر على إبقاء غرفة نومه سراً خوفاً من مؤامرة لاغتياله. لم يُضع بول بوت الفرصة... تقدم وصافح وانسحب سريعاً إلى جناحه.

قبل الغروب بقليل خرج صدام ومعمر للنزهة. أشاد الأول بشعب كوريا الشمالية. فسارع الثاني إلى الثناء. تضحياتنا قوبلت بنكران الجميل. جاؤوا مع المحتل الأجنبي. داسوا الصور. واقتلعوا التماثيل. صار اسمنا في الإعلام الرسمي الطغاة. حتى الجلاوزة الذين كنا نُكلفهم المهمات القذرة غسلوا أيديهم منا وصاروا يحبون حقوق الإنسان. كيم الابن كان أكثر حكمة. صادر أصواتهم وحولهم شعباً يقاتل للعثور على وجبتين. أنتج أجيالاً من الصواريخ وباعها وترك لنجله قنبلة نووية تُدفئه وتحميه. أولادنا في القبر أو السجن أو المنفى وابنه يجلس على كرسي جده والنجوم تلمع على كتفيه. اتفقا على أن ما حدث لا يُصدق. ولم يحدث. وأن الأمر من صنع الإعلام المُغرض. وأن فبركات laquo;الجزيرةraquo; و laquo;العربيةraquo; لن تدوم.

لوحظ أن زعماء من العالم العربي وأفريقيا وأميركا اللاتينية غابوا عن استقبال كيم الابن. أغلب الظن أن مدير المراسم لم يُخطرهم. سيتدفقون في اليوم التالي إلى جناح النزيل الجديد للترحيب به. كثيرون منهم يشعرون بإحباط شديد. يتلقون تقارير غير مُطمئنة.

في اليوم التالي عُقد اجتماع ثلاثي ضم كيم الابن وصدام ومعمر. وزع مدير الفندق عليهم اقتراحاً قدمه مجهول لحجز غرفة لرئيس رحل للتو وأرفقه بسيرة ذاتية لصاحب الطلب. تفرس الثلاثة في سيرة فاتسلاف هافل. أضحكتهم عبارة قائد laquo;الثورة المخمليةraquo;. دققوا في النص. هذا رجل لم ينقض على دولة مجاورة. لم يُنزل الويلات بمدينة في بلاده. لم يُفجر طائرة مدنية. لم يُطارد الكلاب الضالة. لم يُنتج غازات سامة أو أسلحة جرثومية. قال جزء من بلاده إنه سيغادر فودعه بأدب جم. ليس في رصيده قتيل واحد. لا زنزانات ولا تعذيب ولا نزع أظافر. ثم أن laquo;ربيع براغraquo; مؤامرة إمبريالية فهو الجد الشرعي لـ laquo;الربيع العربيraquo;. وتكاثرت التعليقات. هل نستقبله لأنه كان مدخناً شرهاً وأقلع عن التدخين؟ ثم أنه دخل السجن وخرج من دون أن ينسى فيه أسناناً أو أصابع. هل نستقبله لأنه كاتب مسرحي وهل نحن اتحاد للكتاب؟. رفض الطلب بالإجماع. سيعود القادة إلى الاجتماع لاحقاً للنظر في طلبات أخرى.