وحيد هاشم

يقال إن مصر مشت بخطى ثابتة على خطوات تونس، ويقال إن مصر دخلت في مسار لا يمكن الرجوع عنه ولا النكوص من مقصده، ويقال إن مصر انتفضت برمتها معلنة رفضها للتوريث السياسي، وللفساد، وللفقر، وللبطالة. وقالوا إن الجيش المصري ما زال يقف على الحياد بين الطرفين، لا يقمع المتظاهرين، ولا يقف إلى جانب السلطة السياسية.

قالوا الكثير الكثير عن مصر، وحللوا الحدث الخطير في مصر من مختلف التوجهات والتوجيهات، ومن أمام وخلف كل الأهداف والمقاصد، بل وتكهنوا أكثر وأكثر عن حاضر مصر الحالي ومصير مستقبلها القادم. لكن يبقى رغماً عن كل ذلك التساؤل الأكبر: ما الذي عجزوا قوله عن مصر؟، أو لنقل ما الذي لم يدر بخلدهم قوله عن مصر؟.

ما عجزوا عن قوله أن ماضي مصر لا يمكن فصله عن حاضرها ولا مستقبلها، وأن ثقافة مصر المدنية والسياسية لا يمكن أن تتغير فجأة هكذا بين ليلة وضحاها. فاتهم أن الأغلبية المطلقة من شعب مصر الذي يبلغ تعداد سكانها الثمانين مليوناً لا زالت صامتة لم تقل كلمتها النهائية في الأحداث الجارية.

صحيح أن المظاهرات المدنية متواصلة ولا زالت مستمرة، وصحيح أن سقف مطالب المتظاهرين من مجموعة 6 أبريل وخالد سعيد لازالت عالية تطالب برحيل النظام السياسي المصري وكل رموزه السياسية والقيادية. وصحيح أيضاً أن مصر دفعت ثمناً غالياً في الأحداث الماضية التي يقال إنها تفجرت في سبيل وقف الظلم والفساد والاضطهاد.

لكن الحقيقة الأكثر وضوحاً حتى الآن لم تتغير تؤكد أن الجيش المصري (القوات المسلحة) لم يقف على الحياد، بل ما زال باقياً على ولائه للسلطة السياسية الحالية، فنزوله إلى الشوارع في المدن الرئيسة التي أصابها طوفان الفوضى وحفظه للأمن ودفاعه عن أجهزة الأمن وعناصرها مؤشر واضح على دعمه للسلطة السياسية الحالية.

الذي غاب عن وعي المحللين أن الجيش المصري الذي فجر ثورة عام 1952م، حكم مصر من خلال القيادات السياسية التي توالت على السلطة، بداية من محمد نجيب، مروراً بجمال عبد الناصر، ومن ثم السادات، أخيراً محمد حسني مبارك، ونهاية بتعيين عمر سليمان نائباً لرئيس الجمهورية وأحمد شفيق رئيساً للوزراء.

إذاً حقاً وصدقاً لا توجد مبررات قانونية ولا أسباب سياسية أو حتى دوافع مؤسساتية لأن يقف الجيش المصري إلى جانب المتظاهرين، ناهيكم عن أن يثور ضد السلطة السياسية الحالية التي يعد جزءاً لا يتجزأ منها.

الحقيقة التي غابت عن أعين المحللين أيضاً تتمثل في بقاء معظم إن لم يكن جميع مصادر ومقومات الدعم السياسي الإقليمي والدولي للقيادة السياسية المصرية الحالية. فالدول العظمى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية لم تعلن وقوفها إلى جانب المتظاهرين ضد النظام السياسي المصري، ناهيكم عن أن تعلن تأييدها المطلق للمتظاهرين الثوريين، الذي أعلنته مطالبتها للجميع بضبط النفس، وأكدت على النظام السياسي المصري عدم استخدام العنف ضد المتظاهرين، ومن ثم ضرورة إجراء إصلاحات سياسية شاملة.

الأسباب كثيرة جداً لا تقل عن منطق المصالح الإستراتيجية الدولية الذي لا يكترث إلا بمنطقه المحدود، ولا تكثر عن متانة العلاقات السياسية الثنائية والجماعية التي حظي ويحظى بها النظام السياسي المصري مع الدول الإقليمية والدولية... هنا تحديداً يكمن الفرق وتتضح المفارقة بين أحداث تونس ونتائجها، وأحداث مصر وواقعها ومن ثم ما ستتمخض عنه أحداث مستقبلها. نعم إنها مفارقات عجيبة (ولكن إستراتيجية) على الرغم من توحد مصادر الحدثين العجيبين التونسي والمصري.

الذي يبقى حتى الآن أن أحداث تونس استمرت لثمانية وعشرين يوماً خرج على إثرها الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي من السلطة، أما أحداث مصر فلا زالت في يومها الثامن حتى الآن (يوم كتابة المقال). هنا تثار الأسئلة: هل تستمر الأحداث الحالية بذات الزخم والقوة للعشرين يوماً القادمة؟ هل يمكن للغالبية العظمى (الأغلبية الصامتة) أن تتحمل تكلفة الأحداث وجورها ومصائبها وويلاتها للأيام العشرين القادمة؟ هل تتحرك لدعم مقومات الأمن والنظام للنظام الحالي؟ أم تتحرك لتنضم مع الثورة الشعبية؟. أسئلة تثور مع كل حدث خطير، وتطرح ذاتها بكل قوة في كل مفترق مصيري أخطر.

مع هذا كله تبقى عاصفة المظاهرات الشعبية مستمرة، ويبقى النظام السياسي المصري قائماً وصامداً في مواجهة تلك العاصفة، بل ويمارس الرئيس محمد حسني مبارك صلاحياته ومهامه السياسية بكل سياسة وسلاس، في ذات الوقت الذي يبقي فيه على كافة قنوات الاتصال السياسية وغير السياسية مفتوحة على مصارعها مع كافة الأطراف المعنية بالحدث محلية كانت، إقليمية أو دولية.