بديع ابو عيده
نتطلع اليوم الى عودة مصر العروبة الى حضن الامة الدافئ, لتسهم من موقعها المتقدم في انبعاثها من جديد.
تغير المشهد, وانقلب السحر على الساحر.. ولم تنفع عبارات الاستجداء, والتوسل, ومحاولة استدرار العطف لدى البسطاء, والمتاجرة بمسمار جحا من خلال التذكير ببعض الاعمال التي قدمها الرئيس المُزاح للوطن اثناء خدمته بصفوف القوات المسلحة. كلام لم يكن لينطلي على الجموع التي كانت تتهيأ للزحف على القصر الجمهوري لهدف اسقاط رأس النظام تنفيذا لرغبة الجماهير الغاضبة, التي هبت هبة رجل واحد بعد ان فاض بها الكيل, فقررت اللحاق بموكب الظفر والانتصار, الذي ضم جميع فئات الشعب من العمال والفلاحين, المثقفين والعلمانيين, والمتدينين والحزبيين.
ساروا جميعا تحت راية التوافق الجامع, مما ادى الى العمل على اذابة الفوارق الاجتماعية, فشكلوا صفوفا متراصة لا تشوبها شائبة, رافعين شعارات التغيير, منادين بالحرية والديمقراطية كنهج حياة ومسار عمل, بعد ان عاشوا على مدى عقود عديدة عرضة للسعات سياط الجلادين وادواتهم التنفيذية التي مارست ضدهم مختلف انواع الظلم والاضطهاد, وعوملوا معاملة الاسياد للعبيد. وتخيل الكثيرون للحظة انه قد تم العودة الى حكم الاقطاع بعد ان قسم الوطن الى اقطاعيات صغيرة على مدى التراب الوطني من الاسكندرية الى اسوان واسيوط, وتحولت لتصبح ملكا لذوي القربى والازلام والمحاسيب, مما جعل سواد الشعب يعيش حالة من الكفاف وضيق ذات اليد, عاجزين عن توفير قوت اليوم لهم ولمن يعيلون, امام تلك الفئة من حديثي النعمة التي اصبحت تملك المليارات والعقارات, يبيعون ويشترون يحاصصون ويتقاسمون اموال السمسرة, وكأن مصر قد تحولت مرتعا للمافيات وملعبا لشخوص موازين القوى. وكم كانت تحز بالنفس, بالقدر الذي كانت فيه مبعثا للرضا والفرح مسألة كشف المستور, الامر الذي ادى الى ان تطفو الى السطح تلك الثروات الهائلة التي جمعت ضمن دائرة ضيقة ضمت زمرة من اللصوص والمتسلقين, الذين اجازوا لانفسهم التسيد, واحتلال المراكز القيادية, ليمارسوا سلطة مطلقة من غير الحصول على تفويض من قبل الشعب الذي من المفترض ان يكون مصدر السلطات, واخذوا يصولون ويجولون مستكبرين من دون الاخذ بعين الاعتبار احتمالية الوصول الى ساعة الحقيقة.
ساعة لا تنفع فيها الوجاهات, ولا عمليات الثراء غير المشروع والغنى الفاحش بزمن عز فيه الرغيف بالنسبة لطوابير العاطلين عن العمل من الخريجين والحرفيين واصحاب المهن الذين يعدون بالملايين.
لقد استطاعت تلك الزمرة تقسيم المجتمع الى طبقتين اثنتين لا ثالثة لهما: واحدة عليا تحظى بجميع الامتيازات المعيشية على المستويين العام والخاص سواء بسواء. وهي التي استولت على مفردات السلطات التشريعية والتنفيذية بوضع اليد, ووضعت لنفسها دستورا على المقاس, لم تترك شاردة ولا واردة الا وضمنته اياها كي تتمكن من الاستمرار في احكام قبضتها علي مقاليد الحكم. اما الاخرى فهي الطبقة الدنيا التي تضطلع بمهمة تقديم الخدمات للطبقة الاولى من دون ان يكون لها اي نصيب فيما يخص مواقع صنع القرار, والتقرير بشأن الامور الحياتية يتم التعامل معها كما القطيع.
وكانت عمليات التزوير التي رافقت الانتخابات النيابية الاخيرة هي التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للشارع المصري, حيث وصلت الحماقة بالقائمين على الامر الذي جرى فيه التزوير على المكشوف بعيدا عن كافة المعايير التنظيمية والحزبية, مما ادى الى اضفاء صفة الحزب الواحد على المجلس, فكانت فضيحة بجلاجل مترافقة مع ما اكتشف من فضائح مالية, ادت مجتمعة الى حدوث احتقان شعبي, اصبح بحاجة الى اشعال فتيل الانفجار.
وكثيرا ما تقع الانظمة الشمولية بشرور اعمالها. هذا ما حصل, عندما اقدمت مجموعة من الامن المركزي على اعتقال المواطن خالد سعيد, وعمدت الى تعذيبه حتى اسلم الروح. فكانت الشرارة التي اشعلت الفتيل, فحصل الانفجار الكبير الذي تمثل بثورة شباب الفيس بوك من ابناء مصر الطيبين, الذين لم يعودوا يحتملون اصناف القهر والتهميش والاستخفاف, والنكوث بالعهود والوعود, فتحركوا, وكانت مطالبهم محدودة في اول الامر, تتلخص في اقامة مجتمع العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص, ثم ارتفع سقف المطالب امام تعنت النظام, فاخذوا يطالبون بحل الحكومة وتسريح مجلسي النواب والشورى, وصولا الى رحيل الرئيس. وبدأت بذلك عملية العض على الاصابع, ولم يستغرق الامر وقتا طويلا فتحققت الهزيمة الحتمية بالنسبة لكل من راهن على قِصَرِ نَفَس ِنبض الشارع وان المسألة لا تعدو كونها هبة شبابية عابرة لا تلبث وان تخمد. فكانت ثورة بكافة المقاييس, واستطاعت تلك الطليعة من شباب مصر تحقيق الانتصار فاسقط بايدي المتربصين, وتغير وجه التاريخ, خاصة وانها كانت ثورة ليست مثل باقي الثورات بسبب عدم لجوئها لاستخدام العنف او استعمال السلاح, بل كانت حريصة على السلم الاهلي, وامن المواطنين, وحماية الممتلكات العامة والخاصة من خلال تشكيل اللجان الشعبية, التي اضطلعت بدور مهم في طمأنة الناس, وادخال السكينة الى قلوبهم.
لقد بهت الذي كفر بقدرة الشعب على النهوض من جديد, والانطلاق لتحقيق اهدافه في الحرية والحياة الافضل, وبناء مجتمع العدل والمساواة, وكانت الصدمة التي جعلت الطغاة quot;يسلمون بالاربعةquot;, معترفين بهزيمتهم في معركة ارادوا ان تكون دموية, تحرق نيرانها الاخضر واليابس, فكانت بردا وسلاما, فتحقق المراد من دون اراقة نقطة دم واحدة, اللهم سوى دماء الشهداء الذين سقطوا صرعى برصاص شرطة النظام والبلطجية.
اننا نتطلع اليوم الى عودة مصر العروبة الى حضن الامة الدافئ, مرفوعة الهامات عالية الأجبُن بعد هذا الغياب الطويل, لتتبوأ مقعدها, لتسهم من موقعها المتقدم في انبعاثها من جديد. ومما لا شك فيه ان مصر ما بعد 25 كانون الثاني ليست هي ما كانت قبله. والى لقاء قريب.
التعليقات