محمود الريماوي

في غمرة التطورات التي يشهدها العالم العربي، يسترعي الانتباه مدى الخروج من حالة السكونية إلى الدينامية التي بات الرأي العام يتسم بها بعد طول اعتصام بالصمت، شاع فيه التعبير الذي بات أمثولة وهو ldquo;الأغلبية الصامتةrdquo; . وسبحان مغير الأحوال، فقد باتت الأقلية هي الصامتة، وخاصة النخب النافذة التي تجد نفسها هذه الأيام بين نارين: الدفاع عن الأوضاع القائمة مع ما في ذلك من مجازفة بتأليب الرأي العام على هذه النخب وهي في الأصل موضع نقمة، أو مجاراة الرأي العام ومحاباته، وفي هذه الحالة فإنها تجد نفسها مهددة بفقدان الحظوة والامتيازات .

حالة الدينامية هذه تستفز أجساماً تمثيلية تبدو شبه غائبة كنقابات العمال والنقابات المهنية وحتى في بلد مثل مصر شهد ما شهده من نقلة نوعية، فإن هناك من يأخذ على القوى العاملة أنها وضعت نفسها خارج التحولات التي جرت، رغم الثقل الاجتماعي لهذه القوة .

يصدق ذلك على الأحزاب العربية، التي ما زالت تشكو من أعراض بنيوية حالت بينها وبين الإسهام السلمي في التغيير، فمن الشخصنة حول شخص الزعيم والأمين العام، إلى تكلس الخطاب السياسي والإيديولوجي، إلى الضعف الشديد في تمثيل النساء، إلى إقصاء عنصر الشباب عن المراكز القيادية وهو ما جعل الأحزاب المصرية مثلاً عاجزة عن مخاطبة انتفاضة الشباب والتأثير بهؤلاء والتنسيق معهم .

بعيداً عن ذلك كله، ومن دون الوقوع في إغراء الدعوة الثورية، فإن ما يلحظه المرء هو أن البرلمانات العربية في مجملها ما زالت بعيدة عن أشواق الجمهور وتطلعاته المشروعة . لقد برزت آمال متفاوتة هنا وهناك بأن خيار الذهاب إلى صناديق الاقتراع واختيار ممثلين للشعوب، سوف يسهم في إقامة سلطات تشريعية منتخبة تضبط أداء السلطات التنفيذية، وتعمل على إيصال صوت الناس، وها هي التوترات في أجزاء مختلفة من العالم العربي، تثبت أن هذه الأجسام التمثيلية قلما تشكل جسراً بين مجموع الناس والسلطات التنفيذية . عنصر الفاعلية الذي يضع التشريعات ويراقب الأداء الحكومي يبدو شبه مغيب، والمشكلة لا تكمن بالأشخاص أي بذوات النواب، بل بقوانين الانتخاب التي تفرز موضوعياً مجالس ضعيفة التمثيل، ونواباً يتطلعون للمشاركة في السلطة واقتسام الامتيازات معها، بدل تمثيل الشعب ورفع مستوى الأداء الحكومي، ونزع أسباب التوترات السياسية والاجتماعية، وتحقيق المشاركة الوطنية .

التطورات المتسارعة تكشف أن هذه المجالس في مجملها، أخفقت إخفاقاً ذريعاً في أن تشكل صمام أمان، ولكأن السحر ينقلب بالفعل على الساحر . فحين يتم إنشاء مجالس برلمانية صورية مطواعة، أو في حكم الشكلية،فإن ذلك يرتد بالخسران على أصحاب هذا التدبير قبل سواهم، وها هي الأحداث تدلل على ذلك بالملموس، إذ سرعان ما اختفى هؤلاء البرلمانيون ولم يستشعر لهم أحد وجوداً في غمرة التحولات التي شهدها الشمال الإفريقي العربي . لو كان هؤلاء ممثلين حقيقيين لقواعد اجتماعية لدفعوا السلطات إلى التصحيح والتصويب ولنهضوا بالأمانة الموكلة إليهم قبل فوات الأوان، أما وقد فات الأوان بالفعل فقد أخفق هؤلاء مرة أخرى في الانحياز إلى الشعب وفي المشاركة بصياغة واقع جديد، وانكشف الأمر عن غياب جسم تمثيلي ذي وزن سياسي واجتماعي .

وهذا هو مآل لعبة الاستمالة والاستيعاب للتمثيل الشعبي التي تفنن في وضعها وتنفيذها بعض ldquo;الدهاقنةrdquo; على مدى عقود، فلم تنجح المجالس الصورية التي ابتدعوها في تونس ومصر في امتصاص الغضب الشعبي، ولا في توقع ما قد يحدث والتحذير منه عبر الدعوة إلى إصلاح شامل يضع حداً للفساد والاستبداد . وليس ذلك بغريب في غمرة الانقطاع عن الجمهور وعدم الإصغاء إلى ldquo;نبض الشارعrdquo; والاستخفاف بحقوق الناس ومصالحها المشروعة .

ينسحب الأمر ذاته على اتحاد البرلمان العربي، والذي يفترض أنه يجسد اتجاهات الرأي العام العربي وينطق باسمها، كما يفعل ذلك البرلمان الأوروبي الذي يعكس التعدد السياسي القاري . لقد غاب الاتحاد عن مجريات الأحداث التي ما زالت جارية ومتسارعة، وبدا هيكلاً بيروقراطياً خاوياً . ومرة أخرى فإن الاتحاد البرلماني القومي شأنه شأن البرلمانات الوطنية لم يكن مطلوباً منه لا التحريض ولا التأليب ولا التثوير، بل مخاطبة صانعي القرار ودعوتهم للإصغاء لشعوبهم، واحترام حقوق الشعوب في الخبز والحرية والكرامة، في المشاركة السياسية وفي الكشف عن الاستبداد والفساد، ووضع حد لهما في كل مكان من ديارنا العربية، ووقف التبعية للخارج والاستجابة للتحديات ذات المصدر الخارجي، ووضع المصالح الوطنية والقومية فوق كل اعتبار كما تفعل ذلك سائر الكيانات والتكتلات في عالمنا من الصين إلى الولايات المتحدة إلى الهند وتركيا وإيران .

والخشية أن الأوان قد فات لاستدراك ما فات من قصور وتقصير، ولسبب بسيط وجوهري وهو أن هذه الأجسام التمثيلية جرى تصييرها على مدى عقود كجزء احتياطي ورديف من مكونات السلطات التنفيذية . وها هي اللعبة تصطدم بفصلها الأخير وينكشف معها ما كان مستوراً، حيث تتحول البرلمانات إلى ما يشبه مجالس أشباح وهياكل فارغة، وبالكاد يمثل فيها أعضاؤها أنفسهم رغم أن بعض هؤلاء يتوفرون على نوايا للإصلاح ووصلوا إلى مقاعدهم بأصوات حقيقية لناخبين .