بدرية البشر


حتى الآن احتفظت الثورة المصرية بطابع خاص لا يمكن أن يتكرر مثله في الثورات العربية فقد كانت أسرع الثورات وأقصرها وأخفها دماً، فالمصريون استعادوا روح النكتة المهزومة التي شاخت في مزاجهم، كل هذا كما يقولون بسبب شعورهم بأن حرية داخلهم ولدت. ثورة 25 يناير قصة مصرية مميزة نجح الإعلام الجديد والقديم بتسجيل يومياتها، فصارت تاريخاً يتكثف، أجمل هذه القصص ما لم ينشره الإعلام بعد. كما أن هذه القصص لم تعد تخص المصريين وحدهم بل أصحبت قصة تبدأ بها الحكايات العربية استهلال الحكايات التي ستكتبها وخاصة أنها أصبحت تباريهم في النكت.

في هذه الحدوتة نجد كثيرين من المصريين الذين يعيشون في رفاهية من العيش في الغرب والشرق تركوا أعمالهم وركبوا الطائرات وهرعوا للالتحاق بالمظاهرات وهم يعرفون أنهم قد يموتون. واحدة من هؤلاء كانت لبروفسورة مصرية تعمل في جامعة السوربون في باريس، نامت أياماً طويلة في برد ميدان التحرير، وسجلت الثورة لحظة بلحظة بكاميرتها، ومشت في صدر الخطر بقلب أسد شجاع، فلماذا فعلت ذلك يا ترى؟

صورة جموع المتظاهرين وهم يصلون أمام سيارات الأمن وهي ترشهم بماء المجارير حتى اليوم هي الصورة الأكثر ألقاً في صور الثورات، يروي أحد المتظاهرين الحكاية التي سبقتها وهي أن رجال الشرطة حين رأوا المتظاهرين خارجين من مسجد مصطفى محمود من المهندسين متجهين إلى ميدان التحرير، حيوهم ومشوا وراءهم وكأنهم يحمونهم دون أن ينتبه أحد إلى أنهم يرتبون لهم كميناً، وما أن صعد المتظاهرون كوبري 6 أكتوبر، حتى أقفل الجنود طرف الكوبري، وسيارات أمن أخرى أقفلوا الكوبري في الطرف الآخر، حينها بدأ الجنود يطلقون الرصاص وخراطيم الماء، وفي لحظة واحدة وبقرار من قلب شجاع صفوا أمام سيارات الشرطة صفوفاً متسقة وأخذوا يصلون. ترى لماذا صلى المتظاهرون وهم في وجه الموت؟

أما أجمل قصة سمعتها من أحد المتظاهرين في الثورة هي قصة (فوطة الحياة)، على وزن قبلة الحياة، رواها قائلاً: بعد نجاح المتظاهرين في الوصول لميدان التحرير، وأنا أقف في الميدان سمعت صوت وقوع شيء بين قدمي، كانت قنبلة مسيلة للدموع توقعت أن تنفجر، لكنها لم تنفجر سوى في صدري، دخل الدخان كله في صدري فشعرت بالاختناق، وسقطت على ركبتي، فإذ بشابة تركض نحوي، وتضع على وجهي فوطة مشربة بالخل، لتصبح رائحة الخل من أجمل روائح الحياة، كانت هذه هي فوطة الحياة، التي أعادته مرة أخرى، ترى من جهز النساء بفوط الحياة؟

التلفزيون المصري عاد واحتضن الثورة واعترف بمواطنها الذي خونته وقالت عنه بأنه مندس، لكنها اليوم تغني له (أحلى ولد ولدي، وأغلى بلد بلدي).

المزاج المصري الذي حرك الغضب ثورته، وجد ساعات رائقة ساعات ملأها بالغناء والتمثيل، وكتابة الشعارات الهزلية والنكات. آخر مصري في الثورة وفي الحدوتة أصر إلا أن يلقي نكتته الأخيرة قبل أن تنتهي الحدوتة فرفع ورقة مكتوباً عليها بعد تنحي الرئيس (ارجع مبارك كنا بنهزر معاك).