فهمي هويدي

عندما ألقى أحد رموز الفكر السلفي بمصر خطبة الجمعة قبل الماضية في أحد المساجد الكبرى التي تشرف عليها وزارة الأوقاف، انتابني شعور بالدهشة والحيرة. وحين نشر قبل أيام قليلة أن القيادي السلفي بصدد إلقاء خطبة الجمعة في مسجد عمرو بن العاص الأكبر والأقدم في إفريقيا وليس في مصر وحدها (وهو ما تم التراجع عنه في اللحظة الأخيرة) كان السؤال الذي خطر لى هو: هل قررت وزارة الأوقاف أن تسلم بعض المساجد الكبيرة التي تخضع لإشراف الدولة لكى تسخر منابرها للترويج للفكر السلفى، متنازلة بذلك عن تمسكها بالفكر الأزهرى الوسطي الذي عرفت به مصر على مر العصور؟
ثمة إيضاحات ضرورية أسجلها قبل مناقشة القضية هى:? إن مصطلح الفكر السلفي في الخبرة المعاصرة ينصرف إلى تيار متشدد في فهم التعاليم، ويعد امتدادا للمدرسة الوهابية التي تستلهم فكر شيخ الإسلام ابن تيمية، ويستمد مشروعيته الفقهية من مذهب الإمام أحمد بن حنبل. وبعد أن كانت السلفية في المفهوم الأصولي تصف القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي، فإنها أصبحت لاحقا وصفا لجماعة بذاتها اعتنقت فكر محمد بن عبدالوهاب، ونسبت إليه. ورغم أن الجزيرة العربية ظلت مهد الحركة ومعقلها، إلا أن ظروفا عدة يطول شرحها ساعدت على عبورها الحدود ووصولها إلى العديد من أقطار العالم العربي والإسلامي.
lt; لم يعد السلفيون شيئا واحدا. ولكن في داخلهم تيارات متعددة وبينهم عقلاء ومتطرفون. ففي الكويت مثلا فريق من الحركة السلفية يؤمن بالديمقراطية، في حين أنهم في السعودية ينفرون منها، وقد حرَّمها أحدهم في مصر مؤخرا. وأيا كان رأينا في تشددهم إزاء مختلف مظاهر السلوك الاجتماعي وتعصبهم إزاء الآخرين المغايرين، المسلمون منهم وغير المسلمين، فإن حقهم في الدفاع عن مشروعهم الفكري يظل مشروعا، على الأقل فيما لا يتعارض مع القانون والدستور.
lt; الحركة السلفية من هذه الزاوية تتبنى موقفا مختلفا وبعيدا عن مسار الوسطية التي عرف بها الأزهر في مصر ودافع عنها على مدار تاريخه، وإذا كانت قد انتعشت بصورة نسبية خلال السنوات التي تم فيها حظر نشاط الإخوان المسلمين، إلا أنه تظل فصيلا ينبغى الاعتراف به وجزءا من ظاهرة التنوع والتعددية في الساحة الإسلامية، شأنهم في ذلك شأن تجمعات أخرى مثل الإخوان والمتصوفة وجماعة التبليغ والجمعية الشرعية وغيرهم.
هذه الخلفية تسوغ لنا أن نقول إن تحفظنا على الفكر السلفي ورفضنا له ينبغي ألا يحولا دون اعترافنا بحقه في الوجود. لكننا أيضا نصر على التمسك بحقنا في الدفاع عن الوسطية الأزهرية المصرية، وعن اعتبارها الأصل الذي نتشبث به، والذي ينبغي أن يكون الصوت العالى الذي ينطلق من فوق منابر المساجد التي تشرف عليها الدولة.
إذا حاولنا تنزيل هذه الفكرة على أرض الواقع، فسنقول إن للسلفيين مساجدهم التي ينبغي أن تحترم، وأن يرفع جهاز أمن الدولة يده عنها، وليس هناك منطق ولا مصلحة في تقديم منابر إضافية أخرى كمساجد الدولة لكى يعتلوها ويبشروا بأفكارهم من فوقها. ذلك أن خطوة من ذلك القبيل تفتح الباب لتأويلات عدة، من بينها أن هناك من يشجع التيار السلفي غير المسيَّس بطبيعته لمنافسة الإخوان، أو يحاول توظيف بعض أفكاره لإثارة المسلمين واستفزاز الأقباط، ومن ثم للمساهمة في إذكاء الفتنة والفوضى في مصر.
على صعيد آخر، فليس مفهوما ما سمعته من أن السلفيين يستولون بالقوة على بعض المنابر، وهو ما قيل في تفسير صعود أحد قيادييهم على منبر مسجد laquo;النورraquo; بحي العباسية. إذ لا أفهم ما هي القوة التي يملكونها، لتحقيق هدف من هذا القبيل، وحتى إذا صح أن وزارة الأوقاف استولت على المسجد بعد بنائه وتولت الإشراف عليه، فإن لاسترداده من الوزارة أساليب أخرى لا ينبغي أن تكون القوة بينها. إن الوسطية الأزهرية المصرية عصمت البلاد من مزالق كثيرة، فضلا عن أنها جعلت مصر منارة يهتدي بها العالم الإسلامي، ونحن نريد أن نحافظ على اعتدال فكرنا ووسطيته، وعلى وهج تلك المنارة وإشعاعها الوضاء.. أرجوكم.