بين الأساطير والواقع العربي

مروان المعشر
الجريدة الكويتية
مع الإطاحة بحسني مبارك في مصر- التي كانت تُعَد على نطاق واسع صاحبة واحد من أكثر الأنظمة الحاكمة استقراراً في المنطقة حتى وقت قريب- وتشبث العقيد معمر القذافي بالسلطة في ليبيا، لا توجد نهاية واضحة في الأفق للاضطرابات التي تجتاح العالم العربي. لقد نجح المحتجون بالفعل في إسقاط الحكومة في تونس ومصر، وأصبحت بلدان عربية أخرى في مواجهة حالة واسعة النطاق من السخط والاستياء. لقد فاجأت الاضطرابات أغلب الناس- سواء داخل المنطقة أو خارجها- وحطمت الأساس الذي قامت عليه على الأقل خمسة معتقدات تقليدية عن العالم العربي.
العرب لا ينزلون إلى الشوارع احتجاجا: قبل أن تبدأ الاحتجاجات في مصر وتونس، زعم العديد من الناس أن الحاجة إلى الإصلاح السياسي ليست عاجلة، وأن هؤلاء الذين يدعون إلى التغيير لم يفهموا المزاج العام، أي أن الأمور لم تكن من السوء بالدرجة التي أظهرها بها المعارضون، ولقد قاد هذا الخط من التفكير الحكومات إلى اعتقاد مفاده أن العرب لن يتظاهروا بأعداد كبير للمطالبة بالتغيير، وفي كل بلد، كان هناك من ينظر إلى الإصلاح السريع باعتباره ضاراً بالمصالح الوطنية.
من الواضح أن هذه الحجة لم تعد مقبولة، فلم يتوقع أحد ما حدث في مصر وتونس، وهو ما يعني أن أي بلد عربي لم يعد محصنا، وإن الحكومات لا تتمتع بترف الانتظار إلى الأبد، ولم يعد بوسعها أن تستخدم أسطورة السبات أو السكون الشعبي لتجنب البدء بالإصلاحات الضرورية الكفيلة بعلاج المظالم الشعبية الأساسية.
التحرر الاقتصادي لابد أن يسبق الإصلاح السياسي: إن الحكومات العربية- والعديد من أهل الغرب- تزعم أن الخصخصة وغير ذلك من الإصلاحات الاقتصادية لابد أن تُعطى الأولوية على التغيير السياسي، ولكن في حين قد يكون من السهل أن نزعم أن المواطنين يريدون الخبز قبل الحرية، فإن التحرر الاقتصادي جاء في غياب أي نظام من الضوابط والتوازنات، وبالتالي فلم يسفر ذلك التحرر الاقتصادي عن خبز أو حرية.
بل ذهبت أغلب فوائد الخصخصة وغيرها من المبادرات بدلاً من ذلك إلى النخب السياسية وأباطرة المال والأعمال، ونتيجة لهذا أصبح العرب ينظرون إلى الليبرالية والعولمة سلبا، ولقد بات من الواضح الآن أن الإصلاح الاقتصادي لابد أن يقترن بالإصلاح السياسي، حتى يتسنى تطوير وتنمية آليات المساءلة والمحاسبة السياسية القادرة على مراقبة أي تجاوزات وضمان إتاحة الفوائد للجميع، والواقع أن الحكومات كانت سريعة في الاعتقاد بأن المحتجين نزلوا إلى الشوارع في الأساس بسبب ارتفاع الأسعار والبطالة، ولكن القضية التي يتوحد حولها السخط العربي هي الحكم القاصر غير المؤهل.
الأنظمة المغلقة ضرورية لمنع الإسلاميين من الاستيلاء على السلطة: إن الغرب كثيراً ما يعرب عن خشيته من أن تمنح الديمقراطية الإسلاميين الحيز الذي يحتاجون إليه لفرض سيطرتهم، وهو الخوف الذي استغلته الأنظمة العربية لتبرير الإبقاء على أنظمة سياسية مغلقة، ولكن الإسلاميين لم يلعبوا دوراً كبيراً في مصر أو في تونس، ومن غير المتوقع أن يقودوا أي حكومة جديدة يتم تشكيلها، ولو أنهم يشكلون جزءاً مهماً من المجتمعات العربية، ولابد أن يلعبوا دوراً في الأنظمة الناشئة في بلدانهم.
لذا فمن غير الصحيح أن البديل الوحيد للحكم الاستبدادي المطلق الذي لا يلين أبدا هو التيار الإسلامي، ومن الواضح أن الاحتجاجات كانت نتيجة لضيق المواطنين العاديين ذرعاً بالفساد، والافتقار إلى أي مظهر من مظاهر سيادة القانون، والمعاملة التعسفية، وهنا تلوح الفرصة للبدء بتنمية وتطوير أنظمة تعددية حيث لا يستأثر الإسلاميون أو أي طرف أو سرد آخر بساحة العمل السياسي.
الانتخابات تساوي الديمقراطية: لم يعد أحد ينخدع بهذا الزعم الآن، ففي سبيل الحفاظ على هيمنتها، كانت الحكومات العربية تعتمد على قوانين معيبة وانتخابات لا تفرز برلمانات قوية أو تؤدي إلى تغيير حقيقي، ومن الواضح أن الحكومات والبرلمانات في بلدان مثل مصر وتونس لم تكن تتمتع بأي شعبية، وفي مختلف أنحاء المنطقة كانت الانتخابات تستخدم لخلق واجهة ديمقراطية زائفة بغية ترك انطباع طيب لدى المواطنين والعالم الخارجي، وعزل الأنظمة الحاكمة في الوقت نفسه عن أي ضغوط قد تدفعها إلى الإصلاح الحقيقي.
بيد أن الشعوب العربية لن تتقبل بعد الآن فرض الوضع الراهن، فلن يرضى الناس بالهبات الاقتصادية أو التغييرات التجميلية في الحكم؛ بل إنهم يطالبون بتغيير حقيقي يضع بلدانهم على مسار واضح نحو الديمقراطية.
المجتمع الدولي لا يستطيع أن يلعب دورا: رغم أن عملية الإصلاح لابد أن تكون نابعة من الداخل، فإن الولايات المتحدة، وبقية المجتمع الدولي، قادرة على تشجيع التطور الديمقراطي من دون فرضه من بعيد، ولقد رفض الرئيس باراك أوباما العديد من السياسات التي انتهجتها إدارة جورج دبليو بوش والتي بدت وكأنها محاولة لفرض الديمقراطية فرضاً على البلدان العربية، ولكن الصمت الذي ساد في أعقاب هذه المحاولات فيما يتصل بالتحول الديمقراطي أدى إلى تفاقم محاولات تفكيك عملية الإصلاح في المنطقة العربية في الأعوام القليلة الماضية، ولو أن ذلك الصمت لم يكن بكل تأكيد السبب المباشر وراء تفكيكها.
وبوسع الولايات المتحدة والغرب الدخول في مناقشة مع الدول العربية بشأن كيفية تنفيذ الإصلاح السياسي على نحو يساهم في إيجاد قدر أعظم من الانفتاح وفرص تقاسم السلطة، ويتعين على الغرب ألا يضحي بهذه الأهداف لمصلحة آخرين؛ وإذا فقد الحلفاء في نهاية المطاف السلطة في ظل ثورات شعبية، فإن مثل هذه المقايضة ما كانت لتعزز المصالح الغربية، على أقل تقدير.
لقد نجحت الأحداث الجارية التي احتلت أخبارها العناوين الرئيسة في مختلف أنحاء العالم في تبديد الأساطير والخرافات الرئيسة حول العالم العربي، وينبغي لشعوب هذه الدول أن تبدأ على الفور عملية إصلاح سياسي تدريجي ومستمر وجاد، وفي فجر هذا العصر العربي الجديد، فإن الأمر يعود إلى هذه الشعوب في بناء أنظمة سياسية جديدة مفتوحة وقادرة على درء مخاطر الأزمات المتصاعدة التي تلوح في الأفق.
* وزير خارجية الأردن ونائب رئيس وزرائها سابقا، ويشغل حالياً منصب نائب رئيس الدراسات لدى وقف كارنيغي للسلام الدولي، وكبير زملاء جامعة ييل، laquo;بروجيكت سنديكيتraquo;
الارتباك الامريكي مع ليبيا
محمد كريشان
القدس العربي
الثورات العربية لا تأتي فرادى هذه الأيام، وكذلك مصائب الدبلوماسية الأمريكية في التعاطي معها. آخرها مع ليبيا فواشنطن تبدو مرتبكة ومواقفها بخصوص استمرار قمع العقيد القذافي لشعبه ملتبسة. وقد شكل هذا الموضوع مادة سجال كبيرة بين السياسيين والمحللين الأمريكيين من ذلك أن مايكل سينغ المدير السابق لشؤون الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الامريكي يرى أن الولايات المتحدة تخلت عن قيادة العالم الحر ولم تعد في صدارته، وأن مصداقيتها على الصعيد الدولي تعرضت إلى لطمة مؤذية، حيث لا تزال واشنطن تقف موقف المتفرج على ما يجري في ليبيا بالرغم من تصريحاتها القوية.
ويضيف سينغ في مقابلة مع إحدى شبكات التلفزيون الأمريكية أن بلاده لم تصل إلى حيث يجب أن تكون في مواقف كهذه، بل إنها لم تكن من بين القوى التي تقف إلى جانب القرار الذي تعمل كل من فرنسا وبريطانيا على استصداره داخل مجلس الأمن الدولي. هذا الأمر يعزز المخاوف التي تساور أوساطا أمريكية كثيرة من أن الولايات المتحدة بدأت تسحب نفسها من الشرق الأوسط، وهي سياسة ستزيد جرأة تلك الأطراف المناوئة لها في أماكن أخرى في المنطقة مثل إيران، كما يقول سينغ.
هذه الآراء النقدية الجريئة تدخل في سياق ما يراه بعض المحللين من أن أمريكا الآن تواجه أسوأ وضع من نوعه، لأن الرئيس أوباما من جهة كان قد دعا القذافي إلى التنحي عن السلطة ومغادرة البلد ومن جهة أخرى لم يفعل شيئا بهذا الاتجاه سوى فرض بعض العقوبات التي لا يمكن سوى أن تعطي مفعولا على المدى البعيد.
هذا التردد الأمريكي أو حتى التراخي يرجعه البعض إلى أن واشنطن متخوفة من هوية هؤلاء المسلحين الذين يقاتلون كتائب القذافي ولا تستبعد أن يكون من بينهم عناصر من السلفية الجهادية التي سبق لها أن كانت في سجون القذافي أو ممن عاد إلى البلاد من مناطق عربية ملتهبة. ومع ذلك، فهذا الالتباس لم يمنع محللين آخرين من القول إن هؤلاء المقاتلين لن يكونوا بديلا أسوأ من نظام العقيد.
وحتى دون معضلة هوية المقاتلين الثوار في ليبيا، فإن واشنطن ما كان يعوزها أصلا الارتباك الذي طبع التعامل الأمريكي مع ثورات كل من تونس ومصر وما يشهده الآن اليمن والبحرين.
من الممكن تفهم حرص الإدارة الأمريكية على تجنب أي تورط عسكري جديد في بلد مسلم بعد التجارب المريرة في أفغانستان والعراق ولكن من الصعب فهم هذه الحماسة الضعيفة لفرض منطقة حظر جوي على ليبيا مقارنة بما تبديه دول حليفة لها مثل فرنسا وبريطانيا. ولعل ما يشفع قليلا للأمريكيين أن إدارتهم تواجه في ليبيا حالة غير مسبوقة في البلاد العربية فهي فضلا عن دخول السلاح فيها عنصرا جديدا لا تبدو آفاق المواجهة واضحة. في لحظة ما بدا للأمريكيين إصرار التونسيين على إسقاط بن علي وإصرار المصريين على تنحي مبارك إصرارا لا يلين وغير قابل للمساومة فاختارت واشنطن في الوقت المناسب إجمالا أن تصطف إلى جانب شعبي البلدين لكن الأمر مختلف في الحالة الليبية: كر وفر يصعب جدا معه لأي كان أن يجزم مطمئنا لمن ستكون فيه الغلبة.
و مع أن القذافي الابن لم يتردد في إشهار تلك الكلمة المعروفة من حرفين في وجه الولايات المتحدة، ومع أن والده الذي يقول أن لا منصب له سوى المنصب الاعتباري كقائد ومرجعية يهدد الأمريكيين بأنه قد يتحالف مع بن لادن ويعلن الجهاد ضدها وهو الذي كان قبل أيام يحذرها من القاعدة ويبتزها بها، فإن واشنطن ما زالت لم تحزم أمرها بالكامل وكأنها بصدد انتظار شيء ما نجهله. ويوم تقرر فعلا وقطعيا أن تختار موقعها وتحدد خطوتها المقبلة فربما يكون الوقت قد صار متأخرا وغير قابل للتدارك ساعتها.