عبد الحميد الأنصاري
يجاهد الشعب الليبي في سبيل حريته وكرامته في وجه أعتى نظام استبدادي عرفه التاريخ الإنساني، آلاف الشهداء والجرحى سقطوا، لكن الشعب الأبي سيواصل جهاده مستعيناً بالله تعالى وهو ناصره، وسيزول هذا النظام ويسقط كتابه الأخضر وسيرحل قائده بعيداً عن أرض ليبيا الحرة هو وأولاده وزبانيته.
مأساة الشعب الليبي في عهد القذافي، مأساة طويلة، مأساة شعب دخل نفقاً مظلماً على يد حاكم مارس استعماراً داخلياً وعبثَ بمقدرات بلد يتمتع بثروات هائلة مع مواطنين لا يتجاوزون الستة ملايين. الليبيون كرماء أُباة، ناضلوا ضد الاستعمار الإيطالي وهو استعمار بشع (1911-1951)، وانتصروا وحققوا الاستقلال والوحدة الوطنية، وهم لا يستكينون للظلم، فيكف استطاع القذافي أن يحكمهم 42 عاماً؟!
في تصوري أن هناك ثلاث دعائم ضمنت للقذافي توطيد حكمه، وهي: شخصية القائد، والكتاب الأخضر، والنظام الفريد!
أولاً -القائد: على علماء النفس والاجتماع والسياسة استفراغ كل ما في جعبتهم لدراسة وتحليل شخصية القذافي، وفي تصوري أنها تستعصي على أي تحليل منطقي وتبدو كل نظريات علم النفس والاجتماع حائرة أمامها، وقد يكون توصيف حسن شامي صحيحاً: quot;جمع في شخصه دفعة واحدة وبطريقة مكثفة كل التشوهات التي صاحبت عمليات التحديث في العالم الثالثquot;. لنتأمل صورتين للقذافي: صورته بعد قيامه بثورة الفاتح 1969 وصورته وهو يصرخ في المتظاهرين، يصفهم بما لا يليق ويهددهم بالسحق وتطهير البلاد منهم. في الصورة الأولى ترى شاباً يافعاً في السابعة والعشرين، برتبة الملازم أول، تلوح على وجهه سيماء الفرح بما أنجزه، يحمل آمالاً واعدة، مبشراً بالوحدة والنهضة، عاطفته القومية جياشة، يعانق صديقه هيكل -مبعوث عبدالناصر- ويحمِّله رسالة بالوحدة الفورية مع مصر، يستقبله عبدالناصر ويربت على كتفه قائلاً: أخ معمر، أنت تذكرني بشبابي، ويخلع عليه صفة quot;أمين الأمةquot; وتستقبله الجماهير بالترحيب والتهليل. أما في الصورة الثانية فتجد البؤس والكآبة والتشوه المروع، يطل من نافذة المنزل المحصن بعينين زائغتين ويصرخ بهلع: إلى الأمام... ثورة... ثورة! إنه كالجريح لا يصدق ما يحصل أمامه، يتخبط في كل الاتجاهات. من يتأمل وجه القذافي وهو يهدد شعبه: أقتلكم أو أحكمكم، يدرك أن الرجل تغيّر جسدياً وفكرياً ونفسياً لدرجة تثير الرثاء والشفقة كما يقول هاشم صالح! كيف انتهى هذا الشاب إلى هذه النهاية الحزينة؟! إنها السلطة المطلقة، وطول الأمد، وانعدام الرقابة الشعبية، وأيضاً وهو المهم، نفاق وتملق النخبة العربية المثقفة وقادة الأحزاب السياسية وضمنها فصائل حركة التحرر الفلسطينية وإعلاميون وفنانون... طلباً لعطاياه، وكذلك صمت الأنظمة العربية على جرائمه وسكوت المجتمع الدولي طمعاً في صفقاته. كان القذافي قائداً للثورة، قومياً متحمساً يجوب الأرض طلباً للوحدة فلم ينجح ووجد أن quot;الجمهوريةquot; قليلة عليه فقلبها جماهيرية عظمى! لكن تضخم الذات لم يقنعه فوصلت به النرجسية أن أعلن في القمة العربية 2009 بالدوحة أنه عميد الحكام العرب وملك ملوك إفريقيا وإمام المسلمين... لكن جنون العظمة لا يقف عند حد فقد أصبح يعتقد أنه مبعوث العناية الإلهية للبشرية، حكيماً ومعلماً للبشرية، وأنه ملكية عاملة لكل الأحرار في العالم ومرجعية الجميع!
ثانياً -الكتاب الأخضر: اعتمده القذافي مرجعاً أعلى لكل شيء في ليبيا؛ السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والتاريخ والوطنية وحتى الدين، بل هو عند صاحبه أشبه بإنجيل يبشر به ويدعي صلاحيته لكل زمان ومكان، وأنه سبق البشرية بـ50 سنة في بلورة نظام ديمقراطي مثالي هو quot;النظرية العالمية الثالثةquot;، وفي تحليل فلسفة التاريخ، ومراحل التطور السياسي والاجتماعي. وبلغ من تقديس القائد لكتابه أن صرف مليارات الدولارات على ترويجه وترجمته إلى لغات الأرض وعقد مؤتمرات لا تنتهي حوله، وإقامة المسابقات ورصد الجوائز الضخمة في مباحثه، وعمل رسائل ماجستير ودكتوراه وفرضه منهاجاً دراسياً على كافة المراحل الدراسية. وأنجزت نخبة من المثقفين المنتفعين شروحاً ودراسات حول الكتاب الأخضر بلغت عدة مجلدات ضخمة، ولم يتوان القذافي عن إقامة نُصُب للكتاب في جميع أرجاء البلاد، الأمر الذي لم يفعله ماو تسي تونج مع كتابه الأحمر. وفي الكتاب الأخضر أن الديمقراطية الغربية، تلفيقية، والدستور باطل والاستفتاء عليه تدجيل، والأحزاب نظام استبدادي، فمن تحزب خان، والديمقراطية الحقيقية هي ديمقراطية اللجان الثورية والمؤتمرات الشعبية حيث الشعب يحكم مباشرة. ويرى القذافي أن كتابه هو الحل النهائي لكافة مشاكل البشرية.
أما النظرة الموضوعية لهذا الكتاب فتقرر أنه مجموعة من التخاريف والترهات التي لا تمت لا للفكر ولا للمنطق ولا للثقافة بصلة، لذلك فقد كان فضيحة مدوية للثقافة العربية أن يتبارى بعض كتاب العرب لكيل المديح والثناء لهذا الهراء والدجل!
ثالثاً -النظام: ابتدع القائد نظاماً لا سابق له في التاريخ ولا مثيل له في العالم؛ هدم كيان الدولة وفكك مؤسساتها المدنية والعسكرية، وسرّح الجيش وأنشأ كتائب مسلحة بقيادة أبنائه. لا حكومة في ليبيا ولا برلمان، فقط لجان ثورة ومؤتمرات شعبية وآلاف من المرتزقة والقبائل الموالية لحمايته.
وكان من أهداف القذافي في تفريغ المؤسسات لصالح نظامه الشاذ:
1- إيهام العالم بأن الشعب هو الحاكم الذي يصنع قراره، فلا حكومة ولا مؤسسات وسيطة ولا حاكم يستبد بالشعب، لذلك يتعجب القذافي من الثوار: كيف تقومون بالثورة على أنفسكم وأنتم الذين تحكمون، أنتم إذن لصوص ومجرمون ومخدرون ومن أتباع quot;القاعدةquot;!
2- التنصُّل من أية مسؤولية سياسية لأن القائد قد سلَّم السلطات كلها للشعب عام 1977، وهو لا يمارس أية سلطة ولا يملك قصراً للحكم مثل بقية الرؤساء، بل يسكن خيمته في الصحراء، ولو كان يملك منصباً رسمياً لألقى باستقالته في وجوه quot;الجرذانquot;!
3- بما أنه لا يشغل منصباً رسمياً فمن حقه أن يأخذ خيمته معه أينما حل وارتحل ومن حقه الخروج على البروتوكولات المتعارف عليها بين الزعماء، لأنه ليس زعيماً مثلهم بل هو فوقهم! ومن حقه أن يتجاوز الوقت المحدد للخطابة، ومن حقه أن يخلع على نفسه الألقاب كما يشاء! ويفسر الديمقراطية بـquot;ديمومة الكراسيquot;، وquot;أوباماquot; أبو عمامة... وهكذا. ومن حقه أن يبدد ثروات ليبيا على تمويل 30 منظمة إرهابية، وملاحقة المعارضين وتصفيتهم، وضرب شعبه بالطائرات، وتدبير المؤامرات ضد ملوك ورؤساء... إلخ.
إن وجود مثل هذا النظام واستمراره quot;وصمة عارquot; للمجتمعات العربية والإسلامية والدولية.
التعليقات