ماجد عزام

ناتان شيرانسكي، الرئيس الحالي للوكالة اليهودية، الوزير السابق، وأول من أسّس حزباً للمهاجرين الروس في إسرائيل، ألّف منذ عشر سنوات تقريباً كتاباً عن الديموقراطية أثار إعجاب الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، لدرجة أنه اعتبره بمثابة الملهم والمرشد له في سعيه، أو بالأحرى حربه، لنشر الديموقراطية في المنطقة. الكتاب تضمّن نظرية أساسية واستنتاجاً مركزياً منها، تفيد الأولى أن معيار الديموقراطية في أي بلد هو quot;اختبار الميدانquot;، بمعنى أن يتجمّع الناس في الميدان الرئيسي لأي عاصمة للاحتجاج ضد الرئيس أو الزعيم، ثم يعود كل منهم سالماً إلى بيته. أما الاستنتاج فهو فشل الدول العربية في quot;اختبار الميدانquot;، وافتقادها للديموقراطية والنجاح شرط لازم - حسب الكتاب - لصنع السلام معها، ناهيك عن ضمان ديمومته واستمراره في ظل أنظمة ديموقراطية ومستقرة.
شيرانسكي، اليميني المتطرّف والداعم بقوة للاستيطان والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، مارس في الحقيقة سياسة صهيونية تقليدية تستند إلى المماطلة وكسب الوقت وفرض الوقائع على الأرض، وبالتالي إفراغ المفاوضات وعملية التسوية برمّتها من محتواها وجدواها، انتظاراً للتحوّل الديموقراطي في السلطة الفلسطينية، وهو المبدأ الأساس الذي قامت عليه خطة خارطة الطريق، والتي فسّرها دوف فايسغلاس ببلاغة على النحو التالي: على الفلسطينيين أن يتحوّلوا إلى فنلنديين إذا ما أرادوا الحصول على دولة.
عوضاً عن ذلك، فإن إسرائيل نفسها فشلت في quot;اختبار الميدانquot; مرّتين: في الداخل والخارج، مرةً عبر السياسة العنصرية الممنهجة التي تتّبعها ضد المواطنين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، والقوانين التمييزية سيئة الصيت التي أقرّتها الكنيست، أو هي في سبيلها لإقرارها، والتي تكاد تتطابق مع القوانين التي اتّبعها نظام الفصل العنصري البائد في جنوب أفريقيا. ومرةً أخرى، في الخارج، عبر موقفها من الثورة المصرية، حيث تجاهلت آهات وصيحات الملايين في ميدان التحرير، وفضّلت الاستقرار المزعوم على الديموقراطية، وساندت نظام القمع والاستبداد والفساد حتى الرمق الأخير، ما أثار الغثيان في البيت الأبيض- حسب تعبير المعلّق توماس فريدمان- وأكّد حالة الانفصام التي تعيشها إسرائيل إن تجاه ذاتها أو تجاه المحيط. ناهيك عن تعاليها وعنجهيتها تجاه العرب واستغلال الديموقراطية كذريعة فقط لاستدرار العطف الغربي والمماطلة في التوصّل إلى اتفاقيات سلام وفق الشرعية والمواثيق الدولية، حفاظاً على الواقع الراهن الذي فرضته بقوة القهر والاحتلال في الضفة الغربية، وتحديداً في القدس ومحيطها.
هذا في ما يخصّ شيرانسكي وإسرائيل، أما في ما يتعلق ببوش الابن الذي تبنّى نظرية quot;اختبار الميدانquot; بحذافيرها، وعرضها على معظم من التقاهم من الزعماء العرب. ويقال إن أحداً منهم لم يستوعبها، ما اضطر بوش لشرحها على النحو التالي: quot;نظرية الميدان تعني أن يتظاهر الناس مثلاً في الميدان الرئيسي في واشنطن ضدي ثم يعود كل منهم سالماً إلى بيتهquot;. فعلّق الزعيم العربي قائلاً إن الأمر نفسه يحدث أيضاً في بلده، حيث يتظاهر الناس ضد بوش ثم يعود كل منهم سالماً إلى بيته. أما لو كان هذا اللواء أحمد شفيق لكان أبدى استعداده لإرسال البونبون إليهم، حتى لو اعتصموا ضده في الميدان الرئيسي للقاهرة.
التفسير الانتقائي والسطحي لنظرية quot;اختبار الميدانquot; نلمسه الآن أيضاً في التعاطي العربي الرسمي مع الثورات العربية المتنقّلة من ميدان إلى آخر، فمن وقف ضد ثورة 25 يناير ودافع حتى اللحظة الأخيرة عن مبارك ونظامه البائد نجده الآن متحمّساً لثورة 17 فبراير في ليبيا، ومن ساند سراً أو علانيةً الثورة المصرية الأخيرة نجده الآن داعماً للعقيد القذافي في حربه الجنونية ضد الشعب الليبي الثائر والمظلوم، وساعياً لتكريس نظرية أن ما نجح في القاهرة وتونس لن ينجح في عواصم وحواضر أخرى، ومحذّراً الجماهير العربية من نموذج ليبيا إذا ما تجرّأت على المطالبة بحقوقها في الحرية والكرامة والخبز، وحكم أنفسهم بأنفسهم وفق ابجديات النظام الديموقراطي.
صورة أدقّ عن الفهم الهزلي والساخر والممجوج لنظرية quot;اختبار الميدانquot; نجدها في فلسطين المحتلة والتظاهرات الداعية إلى إنهاء الانقسام كشرط لازم نحو زوال الاحتلال، فالسلطة في رام الله قدّمت الطعام -وليس فقط البونبون- للمتظاهرين في quot;ميدان المنارةquot;، وتقدّم قادتها صفوفهم، على اعتبار أن إنهاء الانقسام يتعلّق بالسلطة في غزة فقط، بينما هذه الأخيرة وافقت مضطرة على إتاحة المجال للتظاهرات على اعتبار أن الانقسام يخصّ نظيرتها في الضفة. وعندما خرج الأمر عن سيطرتها، اضطرت إلى قمع المتظاهرين بغطرسة وفظاظة، ودائماً على قاعدة أن المشكلة ليست عندها وإنما في رام الله.
الفشل في اختبار الميدان، طال كذلك الغرب، الذي تلعثم وتردد في دعم الثورات العربية المطالبة بالديموقراطية، لدرجة أن وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة، عرضت خبراتها الأمنية، على نظام بن علي، المخلوع في تونس، ولم يكن موقف هيلاري كلينتون، وإدارتها أفضل حالاً، والتدخل المتأخر في ليبيا، ليس سوى نفاق، وتزلف تجاه الرأي العام العربي، ناهيك عن الحفاظ على المصالح الغربية، في ليبيا والمنطقة، في مرحلة ما بعد القذافي.
لم تكن إسرائيل ديموقراطية يوماً، لأن الديموقراطية لا تستوي مع الاستعمار والتمييز العنصري والتطهير العرقي. ونظرية quot;اختبار الميدانquot; لشيرانسكي ليست سوى شكل من أشكال العنجهية والتعالي على المحيط العربي، غير أننا مضطرون كعرب للنجاح في الاختبار، ليس من أجل السلام مع إسرائيل وإنما من أجل تحرير فلسطين. إن أنظمة القمع والاستبداد والفساد عجزت عن فعل ذلك طوال ستين عاماً، والدولة العربية المدنية الديموقراطية العادلة التي تجتاز quot;اختبار الميدانquot; بنجاح ستكون قادرة على فعل الشيء نفسه في الاختبار الأكبر والأصعب، اختبار فلسطين.


() مدير مركز شرق المتوسط للإعلام