سمير عطا الله


قبل أشهر قليلة استأجر عدد من أهل بنغازي أحد مطاعم المدينة لإقامة تكريم للصادق النيهوم، أكثر أقلام ليبيا إشراقا. وفي الوقت المحدد للاحتفال دخل المطعم ضابط من كتائب القذافي، وأعلن أنه سبق له أن حجز الصالة، ولن يسمح لكائن سواه بالدخول. لن نعرف أن معمر القذافي ألغى كل بارقة عبقرية أو وجدانية في ليبيا، إلا إذا قرأنا بعض التفاصيل المفزعة كما أوردها الروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه في laquo;الحياةraquo; (2 أبريل /نيسان الحالي). ولن نصدق أحمد إبراهيم الفقيه، بل سوف يخيل إلينا أنها رواية أخرى من أعماله البارعة.

قرأت كثيرا في التاريخ. وتنقلت بين بلدان كثيرة، ورأيت أنظمة كثيرة، وشاهدت مختالين من كل الدرجات وجربت مقارنات كثيرة، من العصور والأزمان والبلدان. لم تبلغ أي laquo;أناraquo; ما بلغه هذا الرجل في معاملة شعبه وأمته، ومن حوله الغرب التافه الذي قايضه على الجثث وبرأ بعض جلاديه وأرسل إليه عبد الباسط المقرحي يمضي أيامه الأخيرة بين أهله، بعكس اللحظات الأخيرة التي قضاها ركاب laquo;لوكربيraquo;، أو ركاب الطائرة الليبية التي أسقطت فوق طرابلس، من أجل أن ينجو من العقاب ويقول لهم: طائرة بطائرة.

أنقل ذلك عن أحمد إبراهيم الفقيه، ليس بصفته روائيا، بل بصفته سفيرا سابقا للنظام. وكنت منذ زمن أعرف رأيه الحقيقي ورأي سواه، كما كنت أعرف أنه لم يكن هناك خيار أمام ملايين السجناء الليبيين، إلا المنفى أو الحرمان في الداخل، أو الحياة في رعب دائم، في الداخل والخارج.

كان صادق النيهوم رمز الشباب الليبي عندما نشأ معمر القذافي. وكانت كتاباته تسحر الليبيين على نحو لا أعتقد أن أحدا عرفه في بلد عربي آخر. ولم يخف القذافي في البداية تأثره بفكر النيهوم، الذي كانت مقالاته تقرأ وتناقش في حلقات مفتونة بأسلوبه وحداثته وثقافته وخروجه على الأنماط العربية المألوفة. ثم بدأ يتطلع حوله ويرى أسماء لا يطيقها. حتى أسماء مذيعي التلفزيون منع وضعها على الشاشة، يقول الفقيه. إذا لمع محدث سارع إلى إطفائه بسرعة. ثم أخذ هو يكتب. وفي ظني أنه كان يحاول، بوعي أو لا وعي، تقليد النيهوم.

عندما تنتهي هذه المأساة سوف تستعيد ليبيا رجالا وأشياء وتواريخ. وأول الاستعادات سوف يكون اسمها، الذي ولدت فيه منذ آلاف السنين. وسوف تستعيد بساطتها ومكانها ومواسمها وألفتها. وسوف تذهب إلى تكريم الذين أحبتهم من دون أن يستطيع ضابط في الكتائب منع الناس من الحضور.