عمار علي حسن


عنوان المقال ليس من قبيل الاستعراض واستلهام الغريب في سبيل لفت انتباه القارئ، ولا هو من قبيل الجمع بين متناقضين، بل هو عين الحقيقة الناصعة، التي غفلنا عنها طويلاً، لأننا كنا نحسب أنها ظاهرة عياناً بياناً في حد ذاتها، ككل الحقائق، في أي زمان ومكان. وقد آن الأوان أن نقدم دلائل يقينية، وبراهين دامغة، على هذه الحقيقة بنفوس متسامحة، وعقول لا تقف عند صغائر الأمور، وتنحاز إلى المصلحة الوطنية المصرية العامة، التي يجب أن تسود، لنحقق الشعار الذهبي لثورة 19 quot;الدين لله والوطن للجميعquot;، في ظل إعلاء مبدأ المواطنة فلا يصبح هناك أي تفريق بين المصريين في الحقوق والواجبات على أساس الدين أو المذهب والطائفة داخل الدين الواحد أو العرق واللون واللهجة والانتماء الجغرافي والوضع الطبقي.

وفي البداية فإن مؤرخين وباحثين مصريين وأجانب ثقاة يذكرون أن 88 في المئة من سكان مصر الحاليين ينتمون إلى الأسر القبطية القديمة اعتنق تسعة أعشارها الإسلام، فإن أضفنا إلى هذا ما يذهب إليه المتخصصون من أن الاختلاط الكبير الذي تم بين العرب والمصريين لم يغير من التركيب الأساسي لجسم السكان أو دمهم، وهو أمر ترجع بعض أسبابه إلى أن العنصر العربي هو من أصل قاعدي واحد مشترك مع العنصر المصري الذي لا يختلف جسمياً عن البدوي، كما يقول أبو سيف يوسف في كتابه quot;الأقباط والقومية العربيةquot;، ولذا يصح القول إن تعريب مصر لم يغير من التجانس الأصلي لسكان البلاد، حسبما يذكر quot;جاستون فييتquot; في quot;موسوعة الإسلامquot;، نظراً لأن المصريين والساميين العرب ينحدرون من عرق واحد، يقول بعض الأنثروبولوجيين إنه quot;العرق القوقازيquot; الذي ينتشر أهله حول البحر المتوسط وجنوبه، وهناك من يعود به إلى quot;الحاميين الشرقيينquot; من نسل نوح عليه السلام. علاوة على هذا فإن هناك اتفاقاً بين أغلب الباحثين على أن لفظ quot;قبطquot; مشتق من الكلمة اليونانية quot;إيجيبتوسquot;، أو من الكلمة الآشورية quot;هيكوبتونquot; ومعناها quot;بيت روح بتاحquot; إشارة إلى العاصمة منف، التي أصبح اسمها يطلق على القطر كله. أما كلمة quot;قبطquot; الحالية فقد أطلقها العرب أنفسهم على المصريين بعد دخول عمرو بن العاص، كما يقول مراد كامل في كتابه quot;القبط في ركب الحضارةquot; الصادر في إطار سلسلة quot;مار مينا 1954quot;.

كما أن الثابت تاريخياً أن العرب سكنوا مصر قبل الإسلام بكثير، فالقبائل العربية هاجرت إلى صعيد مصر وساحت في سيناء وجاءت من شمال أفريقيا إلى الصحراء الغربية، فكان للبدو مكانهم بين المصريين. في الوقت نفسه فإن المسيحيين المصريين ليسوا جميعا منحدرين من أصل مصري قديم، فبلدنا ظل طيلة تاريخه متحفاً للأجناس البشرية، بفعل الغزو المتكرر لمصر منذ فجر التاريخ، والذي جاء معه الناس من شتى الأصقاع إلى هنا، حيث قلب العالم القديم، ومهد الحضارة الإنسانية، وأول دولة عرفها البشر.

ومصر في المنشأ كانت quot;وثنيةquot;، وظلت على هذا قروناً طويلة، ولم يبعدها عن هذا التيار الوثني العام، أنبياء الله، الذين نؤمن بهم جميعاً، مثل موسى ويوسف عليهما السلام، ولا دعوات مبهرة مثل التي أطلقها اخناتون، والتي دارت حول التوحيد. فلما دخلتها المسيحية تحول الوثنيون وبعض اليهود إلى الدين الجديد، ولم يخل هذا التحول من عنف شديد قام به الرومان ضد الوثنيين ليجبروهم على هذا التحول، وذلك على العكس مما يطالب الإنجيل، فهدمت الكثير من معابدهم وأقيمت مكانها الكنائس، واحتدمت الصراعات بين الكهنة للسيطرة على المنطقة وعلى طرائق التفكير ونشر المسيحية، وقتل بعض رموز الوثنيين المصريين وفي مطلعهم عالمة الرياضيات والفلسفة والفلك هيباتيا ابنة ثيون آخر زملاء متحف الإسكندرية والتي عاشت في الفترة من 370 إلى 415 ميلادية إبانَ العهدِ الروماني مع بدايةِ انتشارِ الدينِ المسيحي في العالمْ. وارتكب هذه الجريمة بعض الكهنة، حيث انتظروها وهي في طريق العودة إلى المنزل وقتلوها ومثلوا بجسدها وتم هدم معبدها بموافقة بطريرك الإسكندرية البابا ثيوفليس، لتكون عبرة لمن يسلك طريق التفكير الحر.

وعانى الأرثوذكس طويلًا أمام حكم الرومان المختلفين معهم في المذهب، ودفعوا عشرات الآلاف من الشهداء في سبيل التمسك بعقيدتهم، وتعاون كثيرون منهم مع عمرو بن العاص ليخلصهم من ظلم الرومان ويعيد الأنبا بنيامين الذي كان هارباً في الصحراء إلى كنيسة الإسكندرية. وهنا يقول حنا النقيوسي: quot;عمل عمرو على تحصيل الضرائب التي تضاعفت، لكنه لم يأخذ شيئاً من ممتلكات الكنائس، ولم يرتكب عملاً من أعمال السلب والنهب بل قام بحمايتها طيلة ولايته على مصرquot;. وتحت حكم العرب ظل المسيحيون أغلبية سكان البلاد حتى العصر الفاطمي، وحدثت بالطبع تجاوزات وأشكال من الاضطهاد ضدهم بمنطق السياسة والحكم والتوسع الإمبراطوري وليس تطبيقاً للقرآن الذي ينص على أنه quot;لا إكراه في الدينquot; وتؤجل كل الآيات التي تحدثت عن الردة فيه العقاب إلى الآخرة، لكن quot;العقوبة الدنيويةquot; هي بنت السياسة، التي تحاول دوماً أن تفسد الأديان السماوية. إلا أن الأقباط تعلموا العربية بمحض إرادتهم، وهم الذين تمسكوا بلغتهم تحت حكم الإغريق والرومان، كما أن الإسلام دخل بلاداً عديدة ولم تتغير لغة سكانها مثل بلاد فارس والهند وغيرها، ما يعني أن العربية لم تفرض على أحد.

لكل هذا نقول إن قبطي تعني مصرياً، والأغلبية الكاسحة من المسلمين المصريين هم أصلاً من الأقباط، لكن للأسف، كثيرين يغالطون حقائق التاريخ، لهوى في أنفسهم، أو لغرض ليس طيباً، والغرض مرض، كما يقولون.