رياض نعسان أغا


جاءت ندوة حوار الإسلام والعلمانية في فرنسا (الثلاثاء الماضي الخامس من أبريل 2011) في وقت حرج للوطن العربي المنشغل بثوراته وباحتجاجات المواطنين من أجل الإصلاح في عدد كبير من بلدانه.

فلم يحظ انعقاد الحوار باهتمام عربي أو إسلامي، وقد توجس مسلمو فرنسا من دعوة الرئيس الفرنسي إلى هذا الحوار، بعد أن عبر عن ضيقه بفشل التعددية في المجتمع الفرنسي، وبعد أن طالب حزبه (اتحاد من أجل حركة شعبية) أن يسعى لسن قوانين تكبح جماح النمو الإسلامي لعدم توافقه - كما يرى - مع النظم العلمانية، ولم يخف الرئيس الفرنسي ضيقه من صلاة بعض المسلمين في ساحات عامة، ومن صوت المؤذن حين يدعو إلى الصلاة، وعبر عن أسفه لغفلة فرنسا حين فتحت أبواب الهجرة منذ الثمانينيات، ورأى أن التصدي الذي قوبل به النقاب يجب أن يليه التصدي لمظاهر إسلامية أخرى من أهمها منع خطبة الجمعة باللغة العربية، وبالطبع لم يشر إلى كون الكنائس المسيحية تستخدم اللغة اللاتينية والكنس اليهودية تستخدم العبرية، وكان متوقعاً ألا تحضر قيادات دينية مسيحية ويهودية بعد أن أعلن ممثلو الديانات الست في فرنسا رفضهم للمشاركة، إلا أن الندوة انعقدت وغاب عنها المسلمون الفرنسيون كما غاب رئيس الوزراء الفرنسي، وكان مثقفون فرنسيون من مختلف الاتجاهات. قد أبدوا آراء مهمة في الندوة على مدى أسابيع قبل انعقادها، عبر بعضهم عن خوفه من أن تتحول إلى حوار ضد الإسلام، وتساءل كثير من المفكرين والصحفيين (لماذا الإسلام وحده يهدد العلمانية في فرنسا دون بقية الأديان؟) واستغرب بعضهم أن تستخدم فزاعة التخويف من الإسلام في فرنسا كما تستخدم في الوطن العربي الذي تساند فرنسا ثوراته، وتدعوه إلى التقدم نحو التعددية والديمقراطية والاعتراف بالآخر وعدم الإلغاء والإقصاء، وكان من الضروري أن يحتمي المسلمون بالعلمانية الفرنسية ذاتها، وأن ينادي الرافضون لمعاداة الإسلام باحترام قانون 1905 الذي يفصل بين الكنيسة، والدين ويجعل الدولة حامية للدين، لكن ساركوزي يريد أن يثير نقاشاً حول هذا القانون ذاته، ومنذ أن كان وزيراً للداخلية أصدر عام 2004 كتاباً بعنوان (الجمهورية ، الديانات، الأمل) ويومها كانت فرنسا تستعد للاحتفال بمئوية القانون الذي يعتز به العلمانيون في فرنسا، كانت الأسئلة التي وجهت إلى ساركوزي يومها تدور حول الهدف من إعادة النقاش حول العلمانية، أهو لمراجعة العلمانية ذاتها أم لصناعة إسلام فرنسي؟ ولم يغب عن بال المعارضين يومها ولا يغيب اليوم دور الهاجس الانتخابي عند ساركوزي، ولكن تخصيص الحوار حول الإسلام يدعو إلى تأمل موقف الرئيس فرغم علمانيته يؤكد في كتابه (حوارات) بأنه كاثوليكي بالثقافة والدين والتقاليد، ويعلن أن التدين يجعله منسجماً مع الذات والهوية ومع الجذور التاريخية، وهو يؤمن بأننا لا يمكن أن نربي الشباب على القيم المادية وحدها، بل قال في كثير من حواراته إن الدين عنصر مهم من عناصر الحضارة والتمدن والحياة العامة، وقبل حملته الأخيرة على الإسلام دعا ساركوزي إلى التمييز الإيجابي الذي يفتح أمام المسلمين اندماجاً أكبر في الحياة العامة وفي السياسة.

وهذا الاضطراب في الموقف جعل كثيراً من المفكرين والإعلاميين يتساءلون في عناوين بارزة (ماذا يريد ساركوزي؟)، وبوسعي أن أفهم من موقع العربي المسلم قلق الرئيس الفرنسي وتخوفه من سعة انتشار الإسلام في فرنسا، فقد قمت ذات يوم قريب بحوار فكري من موقع رسمي مع عدد من مثقفي فرنسا في باريس شارك فيه عشرات، وتناولنا سلة من القضايا الراهنة كان أبرزها قضية المسلمين في فرنسا، ولكن المجاملات الدبلوماسية جعلت بعضهم يخفي ما لديه من قلق، فلما خرجنا من قاعة الحوار تابعت مع أحد كبار المشاركين في حوار ثنائي ما كنا نتحدث حوله فلم يخف امتعاضه حين قلت له:(إنني سعيد بأن تكون فرنسا الحاضنة لليونسكو والداعية للتعددية تفسح للمسلمين حرية، قد لا يجدونها في بعض أوطانهم، قال، لكننا قلقون، قلت: مم؟ قال لقد انتصرنا على الغافقي في معركة بواتيه، وإذا كانت الجيوش تراجعت فإن الإسلام تقدم، قلت له: أرجو ألا يقلقك ذلك، فليس الإسلام وحده جاء من بلادنا، أنت تعلم أن المسيحية جاءت قبله من بلادنا، ومنها أيضاً جاءت اليهودية، وكذلك جاءتكم العلمانية من الأندلس المسلمة، فأنت لابد تعلم أن الفيلسوف المسلم ابن رشد هو مؤسس العلمانية، وهذا ما يعرفه كل فلاسفة فرنسا)، ولا يتسع المجال هنا للاستفاضة في تفاصيل الحوار رغم أنه يواكب ما يدور من حوار الآن في باريس.

وبالطبع لم تكن ندوة أبريل 2011 أول ندوة تثير قضية الإسلام في فرنسا، فقد عقدت في العام الماضي ندوة بعنوان (ضد أسلمة فرنسا)، ويبدو مهماً أن يقف ممثلو الأديان مدافعين عن العلمانية، فقد أصدروا بلاغاً مشتركاً يدعو لوقف السجال، وهو يحمل ذات مضمون البيان الذي أصدرته ست وعشرون جمعية علمانية، أكدت فيه أنه لا مكان للنقاش حول الإسلام أو أية ديانة أخرى، وليس من حق الجمهورية أن تفتش في ضمائر الناس وعقائدهم. وقد كتبت المفكرة اليهودية الفرنسية quot;إيستر بن باسةquot; مقالة في quot;اللوموندquot; تدعو إلى ندوة مناهضة لندوة ساركوزي، ومن الواضح أن الإسلام بات الموضوع الشاغل لأوروبا كلها، ولفرنسا بشكل خاص لأن الإسلام هو الديانة الثانية فيها، حيث يبلغ عدد المسلمين بين ستة وسبعة ملايين، وما يلفت الانتباه إقبال الشباب على اعتناقه وقد سمعت أحدهم يقول للقناة الفرنسية إنه يشعر بالحاجة الماسة لبناء منظومة أخلاقية، ولجرعة روحية في عالم قست عليه المادية الجافة، ولئن كنت شخصياً أرجو ألا يبالغ أحد من المسلمين في مظاهر سطحية أو شكلية تثير الآخرين، أو في نقل أفكار متزمتة يصعب تقبلها اليوم في العالم الإسلامي (ومن باب أولى أن يثير ذلك قلق الفرنسيين والأوروبيين عامة)، إلا أنني أذكر المتشددين من كل جانب بضرورة أن يفرقوا بين التعصب للفكر، وبين تقديم المثال الأنصع له في الحياة اليومية، فقد انتشر الإسلام في عدد من بلدان آسيا بفضل ما أبرز التجار المسلمون من أخلاق سامية وسلوك حضاري، ومن تسامح هو جوهر الإسلام، فأحبه الناس ودخلوا في دين الله أفواجاً.