محمد خليفة

يشهد العالم اليوم تحولات جذرية مهمة تمخض عنها ظهور تيار يميني مغالٍ في تعصبه وعدائه وتهديده للوجود العربي والإسلامي في أمريكا وأوروبا، وتتلخص أهدافه المعلنة في إشاعة الفتنة وبث الفرقة والشقاق بين شعوب العالم المختلفة . وإن تكن أنواع الفتن كثيرة، فإن الفتن الفكرية اليمينية المتطرفة تعد أكثرها خطراً وأشدها وطأة، إذ ترتبط بالفتن الدينية والسياسية والاجتماعية، وتنطوي جملة من هذه الفتن المخيفة على توجهات إيديولوجية وسياسية وتشكل أكبر خطر يهدد مستقبل البشرية، ومن أهمها الأحزاب اليمينية المتطرفة التي تضع المسلمين في طوائف متعصبة ومتناحرة .

فقد حذرت قيادات الأديان الكبرى في فرنسا في بيان مشترك، الحكومة الفرنسية من إجراء نقاش وطني حول الإسلام والعلمانية ومكانة الإسلام في المجتمع الفرنسي الذي طرحه الحزب الحاكم . وقال ممثلو الإسلام والكاثوليكية والبروتستانتية والأرثوذكسية واليهودية والبوذية - في بيانهم ldquo;إن العلمانية من ركائز ميثاقنا الجمهوري ودعائم ديمقراطيتنا وأسس رغبتنا في العيش المشتركrdquo; . ودعوا إلى عدم تبديد ldquo;هذا المكسب الثمينrdquo; محذرين من مخاطر الإقصاء، في إشارة إلى المسلمين الذين يستهدفهم هذا النقاش .

وفي الولايات المتحدة، أثارت عملية إحراق نسخة من المصحف الشريف استياء لدى علماء المسلمين والأوساط الكنسية على حد سواء، التي أقدم عليها القس الإنجيلي واين ساب فى ولاية فلوريدا الأمريكية، تحت إشراف القس تيرى جونز، الذي كان ينوى حرق القرآن، عقب ما وصفه ب ldquo;محاكمةrdquo; القرآن الكريم، ما أدى إلى اندلاع مظاهرات في بعض الدول الإسلامية مستنكرة هذه الإساءة إلى الإسلام . وكان بيتر كينغ النائب الجمهوري عن ولاية نيويورك قد دعا لمناقشة ما يعتبره ldquo;خطراً إسلامياًrdquo;، بعدما صرح بأن هناك ldquo;أمراً ما داخل المجتمع الإسلامي يشكل خطراً على الأمن الأمريكيrdquo; . ففي 11 مارس/ آذار ،2011 بدأت لجنة الأمن القومي فى مجلس النواب الأمريكي سلسلة جلسات استماع لبحث مدى انتشار التطرف وسط المسلمين الأمريكيين . وفي كلمته، قال بيتر كينغ إن ldquo;تنظيم القاعدةrdquo; يستهدف مسلمين أمريكيين لتنظيمهم، وإن جهود مكافحة الإرهاب في الولايات المتحدة منذ هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 منعت القاعدة من شن هجمات كبرى من الخارج، لكن التنظيم توجه إلى اجتذاب عناصر من داخل المجتمع الأمريكي، زاعماً أن ldquo;نشر الأفكار الراديكالية بين المسلمين الأمريكيين هو أسلوب القاعدة للاستمرار في مهاجمة أهداف أمريكيةrdquo;، وإن ldquo;المساجد هي مراكز يجري فيها نشر الأفكار الراديكاليةrdquo; . في حين انهمرت دموع النائب الأمريكي المسلم كيث أليسون باكياً حيث اعتبر بيان كينغ بأنه يتعارض مع أفضل القيم الأمريكية ويهدد الأمن الأمريكي، ودعا إلى فهم المجتمع المسلم والتعامل معه . وفي أعقاب ذلك، تظاهر المئات بميدان ldquo;التايمزrdquo; بنيويورك احتجاجاً على تلك الجلسة وما سيترتب عليها من إجحاف بحقهم .

وعلى الصعيد الأوروبي، أوردت وكالات الأنباء نبأ فوز مارين لوبان ابنة الزعيم التاريخي لليمين المتطرف في فرنسا جان ماري لوبان في انتخابات ldquo;الجبهة اليمينيةrdquo; التي أجريت بمدينة تور لتخلف والدها على رأس الحزب وتصبح مرشحته في الانتخابات الرئاسية المقررة في ربيع 2012 . وقد فازت بانتخابات داخلية نظمها الحزب بنسبة 65،67% من الأصوات مقابل 35،32% لخصمها برونو غولنيش في مؤتمر الحزب في تور وسط فرنسا .

إن الساحة السياسية الأوروبية تنزلق نحو اليمين في ظل غياب جهود الأحزاب الأخرى عن مواجهة الأزمات الناجمة عن هيمنة الرأسمالية العالمية، فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء العدو الشيوعي، استبدله اليمين المتطرف بالعدو الإسلامي مع مطلع الألفية الثالثة . وهذه الأحزاب عبارة عن تشكيلات يمينية متطرفة قديمة عدا حزب الحرية الهولندي التابع لغيرت ويلدرز، (Bildunterschrift) . الأوضاع الاقتصادية المتأزمة تخدم أحزاب اليمين، وهذا النجاح الراهن الذي حققته أحزاب اليمين في أوروبا شبيه بما حققته من اختراق في الثمانينات، وشكل منذ ذلك الحين قوة سياسية لافتة للاهتمام على الساحة الأوروبية، بالرغم من أن هذه النزعة القومية لدى اليمين المتطرف تتعارض مع أسس الاتحاد الأوروبي التي نادى بها روبرت شومان وجان مونيه منذ أكثر من 60 عاماً .

فخلال الانتخابات الأوروبية في العامين الماضيين، جمعت التشكيلات اليمينية الجديدة المنتمية إلى فئات ثانوية نسبة تفوق 10% من الأصوات في عدة دولة أوروبية متضمنة هولندا، وبلجيكا، والدنمارك، والمجر، والنمسا، وبلغاريا، وإيطاليا . كما سجلت أداء تدرجت نتائجه ما بين 5 - 10% في دول أخرى متضمنة فنلندا، ورومانيا، واليونان، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وسلوفاكيا . وكان آخرها الاختراق الذي حققه حزب ديمقراطيي السويد اليميني المتطرف في البرلمان السويدي في سبتمبر ،2010 بعدما حصد 57% من أصوات المقترعين في انتخابات السويد التشريعية، وجاء هذا الاختراق بعد نجاحات حققتها أحزاب يمينية ومعادية للأجانب مثل حزب ldquo;بي بي فيrdquo; في هولندا وحزب جوبيك في المجر وحزب رابطة الشمال المعارض للمهاجرين في إيطاليا، وتمتلك أحزاب اليمين المتطرف تمثيلاً أيضاً في برلمانات الدنمارك، والنمسا، وسلوفاكيا، ولاتفيا، وبلغاريا .

وهذا يطرح تساؤلات عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التوجه الجديد للناخبين بعدما تمكنت بعض أحزاب اليمين في دول معينة من تحقيق تقدم، مستفيدة من الأزمات التي تعاني منها هذه الدول، وهو ما يؤكد اقتناعهم ببرامج هذه الأحزاب بعد فشل الأحزاب الأخرى في تحقيق طموحاتهم . ويعود صعود اليمين المتطرف في أوروبا من جديد إلى الأزمة الاقتصادية التي عصفت بالقارة الأوروبية، ولما تتناوله هذه الأحزاب من قضايا تتعلق بالتعددية الثقافية والمهاجرين والإسلام، واستغلالها لمخاوف الأوروبيين التي سببتها العديد من الأزمات الراهنة، فاليمينيون المتطرفون يقدمون حلولاً عملية لمشكلات متفاقمة كمشكلة البطالة التي يقترحون لمواجهتها طرد الأجانب لأنهم يأخذون فرص العمل المتوفرة لأبناء البلد، ما يلاقي قبولاً لدى بعض الناخبين المتذمرين من الأوضاع الصعبة الذي يعيشونها في بلدانهم .

وترفع أحزاب يمينية أخرى شعارات معادية للإسلام والمسلمين لكسب أصوات الناخبين، كما يفعل ldquo;حزب الحريةrdquo; اليميني المتشدد في هولندا، وrdquo;حزب من أجل شمال الرين وفيستفالياrdquo; في ألمانيا الذي نظم احتجاجات أمام العديد من المساجد، واستضاف مؤتمراً أوروبياً لمنع بناء المآذن، ويسعى حالياً من أجل سن قانون يحظر بناء المساجد في كل أوروبا . كما تبدي الأحزاب اليمينية دعماً بغير حدود للحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، فعندما كان اليميني غيرت ويلدرز زعيم ldquo;حزب الحريةrdquo; الهولندي في زيارة إلى ldquo;إسرائيلrdquo; قال إنه يدعم بناء المستوطنات ldquo;الإسرائيليةrdquo; في الضفة الغربية، داعياً إلى رحيل الفلسطينيين إلى الأردن، وأضاف ldquo;أن ثقافتنا تستند على المسيحية واليهودية والإنسانية، وأن ldquo;الإسرائيليينrdquo; يقاتلون بالنيابة عنا . وإذا سقطت القدس ستسقط أمستردام ونيويوركrdquo; .

التطرف ونبذ الآخر سيكون الفكر المسيطر على أغلب الشعوب الأوروبية، وبعبارة أخرى العالم الغربي يسير وفق نظام المذاهب الذاتية الفكرية، والمتمثل في طبيعته وتصوراته للتأثيرات الحسية والعيانات المجردة للزمان والمكان، وفق مشيئات المبادئ المستقلة والذاتية التي تسبق مباشرة حدوث الظاهرة التي لا تقبل معتقدات وسلوكيات الآخر بين النزعة الإيمانية والنزعة المادية التي تتجاذبها الدوافع الغرائزية، وما يتبع ذلك من تنمية الشعور بالانتماء إلى الفهم المبني على البراهين العقلية الحافلة بالنزعات والقوانين التي تسير عليها الأحداث في التاريخ، والمبادئ التي يخضع لها التطور الإيديولوجي والديني والظروف الاجتماعية، ولهذا فلن يكون هناك وجود للمسلمين في أوروبا خلال ال 50 عاماً القادمة من حيث تسلسل المواقف الاعتقادية التي تعبر عن نفسها، وصوت مارين لوبن هو أداة لإدراك هذه الحقيقة التي لا يمكن أن يقوم مقامها غيرها على الرغم من أنها في ذاتها بمعزل عن النظرات الطبيعية والموضوعية .