راشد المبارك


انه مشهد مثير يحمل كل ما يبعث على الغضب والرهبة والاشمئزاز، المشهد الذي يعرض فيه فرد واحد حياة أو أمن ملايين من البشر للموت أو الفزع أو الترويع لرفضهم سلطته أو مخالفة إرادته، ولا يرى في ما يقوم به إلا عملاً مشروعاً مُسوغاً لإشباع رغبات ذات مزدحمة بالخطير من النزوات.

في فترة من الزمن يقل فيها أو ينعدم ظهور حدث ذي بال ينطوي على شيء من المخاطرة أو المغامرة بالنفس وبإنفاق الكثير مما يعز عليها وتحرص على الاستزادة منه واستبقائه، يكون مجيء نجدة لدفع الظلم عن الإنسان وحمايته من بطش غاشم وظلم ظالم أو وقف كارثة نوعاً من انتصار الإنسان لأخيه الإنسان وإظهاراً لشعور الإنسان بإنسانيته، وهذا العمل إذا انبعث من خلوص نية ونبل دافع يكون اعتذاراً واستغفاراً عن سلوك مغاير يتعدد ويتجدد في كثير من فترات الزمان ومواقع المكان.

هناك مجموعة من البشر في بعض البلاد العربية ضاقت بأغلالها فأعلنت بكل وسائل الإعلان وأساليب البيان شعورها نحو سجانها وتوقها إلى التحرر من سجنها، وإذا اختلف هذا الإعلان والمواجهة في درجة حدتهما واتساع مساحتهما من بلد إلى آخر فإن جامعاً مشتركاً يجمع كل المحتجين هو ضيق السجين بأغلاله وإصرار السجان على استبقائها.

تحرك أعداد كبيرة في البلاد المذكورة بدافع واحد صنعه الشعور بالظلم في نفس من يقع عليه وما يزرعه الطغيان المروع والفساد المنتشر والاستئثار بالمنافع والمطامع في نفوس طال شقاؤها بهذه الشرور، وإذا كانت هذه الشرور عوامل مشتركة وُجدت وحركت في كل المواقع فهي تبدو في أكثر صورها حدة وترويعاً في الحالة القائمة في ليبيا إذ قُدِّر لأهلها أو قُدِّر عليهم أن يعيشوا في عهد سعيد، لا يرى صاحب الأمر فيه في التضحية بحياة شعبه وترويع أمنه إلا أمراً مسوغاً ومشروعاً لاستبقاء سلطانه وفرض طغيانه.

إنه مشهد معركة يملك احد طرفيها كل وسائل القتل والإبادة والتدمير ويملك إلى جانب ذلك إرادة لا تجد أي اعتبار ... وقد لا تشعر ولا تحس بأي اعتبار - يمنعها من اقتراف ما تقترف. إنه مثير مشهد معركة بين طرفين لا يملك احدهما الحد الأدنى من وسائل الدفاع عن النفوس المغلوبة والحقوق المسلوبة وحقن الدم المراق، ويملك الآخر كل أسلحة قتل النفوس وقذائف تدمير المنازل ومحاصرة المدن فلا يصل إلى أهلها شيء من طعام ولا زجاجة دواء، هذا الوضع دعا عدداً من الدول الأوروبية إلى العزم على نجدة الجانب المغلوب وكبح المعادي وشرعت في ذلك وشاركتها الولايات المتحدة بتفويض من الأمم، فكان هذا العزم والشروع فيه مبعث فرحة كبيرة في نفوس ملايين في أطراف هذا الكوكب ورأوه بارقة أمل في أن بقية من حس الإنسان تجاه أخيه الإنسان لا تزال تعمر نفوساً من البشر، وانتظروا أن يتم في أيام كسر شوكة الظالم وتحقق أمل المظلوم، إلا أن الفرحة لم تطل وهم يشاهدون ويتابعون ما يحدث فيجدون أن ما تحقق من هذه النجدة لم يتجاوز حشد وسائلها والشروع في بداياتها، وراعهم أنه في الوقت الذي لم يتحقق فيه شيء من أهداف معلنة للنجدة ولم تصل بعد إلى غاية واحدة من غايات جاءت لتحقيقها، يرون أن الحماسة التي كانت متقدة لهذه النجدة بدأت تخبو وأن الاندفاع المتسارع أخذ في التباطؤ والتراخي.

أغرب ما في هذا الأمر وأوجعه أن هذه الدول التي تملك القوة الضاربة والقدرة الغالبة وقد تداعت لدفع ظلم عن مظلوم واستبقاء حياة من تتعرض حياتهم إلى الإبادة، ترى آلة حرب من يتباهى بقتلهم تحاصر مدنهم أسابيع تدكها براجمات تقتل من فيها من الأحياء وتدمر ما فيها من البناء وتمنع عنها كل مدد لوسائل دفاع أو وصول متاع، فلا تصدع الآلة المهاجمة ولا تقمع الإرادة الغاشمة. هذا الموقف يجعل كل فرد لا يستطيع أن يكف نفسه عن التألم من كارثة تقع على فئة من جنسه تحاصره الحيرة إذ لا يدري هل امتنعت هذه القوة الكبيرة وهي تقوم بعشرات الطلعات الجوية في اليوم الواحد عن الإنقاذ لأنها عاجزة عن ضرب هذه الآليات التي تحصد النفوس وتدمر المدن، أم أنها وقفت هذا الموقف لأنها لم تجد بعد دليلاً يهديها إلى المدن المحاصرة ويدلها على المباني المدمرة، فهي لم تعثر بعد - ولا تستطيع أن تعثر - على التجمعات الضخمة من آلات الموت؟ إذا كانت لم تفعل ذلك لهذه الأسباب فما هو السبب الحقيقي لتداعيها ومجيئها، وإذا كان مما لا يدخل في الحسبان أن يكون مجيئها للنزهة ولا للاستمتاع بالنسمات العليلة في الأجواء الليبية ذات المسافات الممتدة، فهل جاءت لاكتشاف مواضع ومواقع وأغراض أخرى لم تكن متاحة لها معرفتها والوقوف عليها في ما مضى؟

من أغرب ما يُقدَّم من تفسير لهذا الموقف اللغز هو أن (الأخ القائد) يسوق أتباعه وأشياعه ليضعهم في مرمى الموت حول معداته الحربية، يحمي بهذه (الكتل) من البشر كتلاً من الحديد، ومع ما في هذا العمل - إذا صح - من شناعة يتضاءل معها كل ما عُـرف من جرائم الطغيان ليكون عائقاً للقوى المنجدة عن نجدة من جاءت لإنجادهم، فتتفادى إصابة من جاؤوا مختارين أن يكونوا وقوداً لنار لا يوقدها إلا من لديه ما لدى (الأخ القائد) من قدرات يشقى بها الإنسان، فإن القوى المنجدة نفسها لم توفق لاختيار أكثر الخيارين قرباً إلى ما يُعقل أو يُقبل، إذ ليس من المؤكد أنها موازنة عادلة ونبيلة تلك التي يكون فيها استبقاء حياة من جعلوا أنفسهم (مادة) يتصرف فيها فرد بلا رفض منهم وهو موقف يستطيع تميزه أدنى الفئات من البشر ولا يلزمهم لذلك أن يقرأوا قول المتنبي:

وإذا لم يكن من الموت بدٌ/ فمن العجز أن تكون جباناً

فيجيزون لأنفسهم ترك أبرياء طالبوا بأبسط وأهم مقومات الحياة وهي حريتهم وكرامتهم، فريسة سائغة لذلك الافتراس المتوحش، هل هي تقوى اجتماعية أو سياسية تلك التي يقدمها من يقف هذا الموقف؟

من المؤكد صحة القول إنه من عمى الرأي والرؤية أن يوجه النقد والمحاسبة إلى دول كانت هي الأولى - والمرجح أن تكون الأخيرة - التي أحست بجسامة الكارثة وبادرت لتحمل جزء من العبء، فكان من الأولى أن تتوجه المعاتبة والمحاسبة في البدء إلى العالم وهو أو أكثره يشاهد هذه المأساة فلا يغير ويتابع أحداثها فلا يتحرك، وفي هذا العالم دول هي الأقرب إلى بلد الكارثة جواراً والألصق بها داراً والأكثر إليها قرباً لغة وديناً وتاريخاً ودماً، لذلك إذا كان المهتم بهذا الأمر يجد حيرة في الموقف الأخير للدول المنجدة فإنه يجد ما هو أكثر من الحيرة في موقف تلك الدول (الشقيقة جداً)، إن البحث عما يحدث لدى كل القبائل يتعذر أن نجد له تفسيراً إذا استثنينا تفسيراً واحداً وهو أن هذه القبائل laquo;ليست من بني مازنraquo;:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي/ بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا

على أن واجب الإنصاف يدعونا مرة أخرى أن نذكر أن قبيلة قطري ابن الفجاءة ليست من بين هذه القبائل.

ما يجرى في ليبيا معركة إبادة ndash; أو الرغبة في إبادة - بين طرف يملك كل أسلحة المعركة ولا يجد ما يمنعه، وبين من يطلب حريته ويسترد كرامته فلا يجد ما يحتمي به، وهو بين أمرين أحلاهما مر، إصرار على موقف لا ينقطع أمله من تحققه أو عامل أخر وهو ما يتوقعه من مصير وبيل لو انتصر سجانه عليه.

وهذه الحالة ليست محنة لليبيين وحدهم بل هي اختبار لضمير العالم.