جيفري كمب

خلال الأسابيع القليلة الماضية قتل وأصيب مئات السوريين في مواجهات تمت بين المحتجين والمتظاهرين والقوات التابعة لوحدات الجيش والشرطة، الموالية للرئيس بشار الأسد. وتعد هذه المظاهرات والاحتجاجات الأكبر والأخطر من نوعها ضد النظام منذ مواجهات حماة التي حدثت في عام 1982. وكان العنف والمذابح التي شهدتها مواجهات حماة تلك، الأشد من نوعها في المنطقة العربية منذ الحرب الأهلية اليمنية التي اندلعت خلال ستينيات القرن الماضي، وهي الحرب التي تدخلت فيها مصر ضد القوى الموالية للنظام الملكي، حيث بعثت إلى اليمن بقوة عسكرية مؤلفة من 50 ألف جندي، لقي الآلاف منهم مصرعهم هناك. ولعل الحادثة الوحيدة المشابهة لمذابح حماة هي الحملة التي شنها الأردن على منظمة التحرير الفلسطينية في سبتمبر عام 1970، ولقي فيها آلاف الفلسطينيين مصرعهم. وقد أدت تلك المجازر إلى نشأة منظمة quot;أيلول الأسودquot; كما نعلم.

وتعود جذور مواجهات حماة إلى تمرد بدأ في عام 1976 واتخذ شكل حركة عنف معارضة للنظام من قبل الجماعات الإسلامية السنية. واستطاع المشاركون في ذلك التمرد شن سلسلة من الأنشطة الإرهابية خلال الأعوام المذكورة، مثلت تهديداً حقيقياً لنظام الأسد الأب حينها. وبلغ ذلك التمرد ذروته حين اجتمعت المنظمات السنية المتمردة في مدينة حماة. وخلال أيام معدودة من شهر فبراير من عام 1982، تمكن النظام من تدمير المدينة بالمدفعية الثقيلة والدبابات وعمليات القصف الجوي. ووفقا للتقديرات المتداولة فإن عدد الذين قتلوا في تلك المواجهات يتراوح بين 10 آلاف و30 ألف شخص. وحتى اليوم لم تتوفر أي إمكانية لتقديم إحصاءات دقيقة لعدد قتلى حماة، وذلك نظراً لعدم وجود أي تسجيل موثق لتلك الأحداث، كما أنه لم يتم بث أي صور فيديو عنها. ليس ذلك فحسب، وإنما تمت تلك المذبحة في ظل غياب تام للصحفيين، بينما تعمدت السلطات عدم توفير أي أدلة على ما حدث. أما الصحفيون الأجانب الذين زاروا المدينة بعد عدة أسابيع من وقوع المجزرة، فلم يكن بوسعهم فعل شيء سوى كتابة تقارير تؤكد الدمار التام الذي تعرضت له المدينة.

غير أن الذي حدث في حماة في بداية الثمانينيات، يختلف تمام الاختلاف عن الانتفاضات الشعبية التي انتشرت في منطقة الشرق الأوسط اليوم. فناهيك عن دوافع وسعة الانتفاضات الحالية هذه، فهي لم يعد بالإمكان إخفاؤها أو التستر عليها مثلما حدث لتمرد حماة، لأنها انتفاضات تجري أحداثها بالثانية أمام عدسات الكاميرات وعبر شبكة الإنترنت، كما تصل أخبارها أولاً بأول عبر الهواتف النقالة والفضائيات التلفزيونية الإقليمية والعالمية على حد سواء. أي أن التقدم الهائل الذي أحرزته التكنولوجيا خلال ثلاثة عقود الماضية، جعل من المستحيل على الأنظمة القهرية إخفاء الفظائع التي ترتكبها بحق شعوبها.

وبالمقارنة، كان في وسع النظام الشمولي في الصين، منع التغطية التلفزيونية للمذابح التي ارتكبتها قواته وأجهزته الأمنية ضد المدنيين المتظاهرين في ساحة تيانامين في أواخر عام 1989. والسبب أن التغطية التلفزيونية حتى ذلك الوقت كانت تتطلب حمل الكاميرات والأجهزة الثقيلة الكبيرة التي يصعب إخفاؤها، مما يسهل بالمقابل تحديد مواقعها ومصادرتها من قبل الأمن. أما اليوم فأصبح إنجاز التغطية التلفزيونية لحركات الاحتجاج ضد الأنظمة القمعية يجري بواسطة الهواتف المتحركة الخفيفة جداً. وقد اكتشفت بعض النظم السياسية في الشرق الأوسط هذه الحقيقة عقب المظاهرات التي شهدتها بعض البلدان منذ عام 2009.

ولهذه الأسباب المذكورة، فإن العنف الجاري حالياً في سوريا يثير تحديات حقيقية أمام نظام الحكم هناك. فليس في وسع التكنولوجيا الحديثة فضح الممارسات التي ترتكبها أجهزة أمن النظام، بتسجيل هذه الممارسات ونشرها على المستويين الإقليمي والعالمي فحسب، وإنما تضع مزاعم كثير من الأنظمة المشابهة بأنها تدعم مطالب الإصلاح السياسي أمام اختبار عملي فعلي.

وبفضل التقدم التكنولوجي، فإن كل كلمة يقولها الأسد يتم تسجيلها وبثها عبر شبكات تلفزيونية لا حصر لها، بما فيها قنوات التلفزيون الفضائية، العربية والأجنبية. أما حقيقة تردد النظام في إلغاء حالة الطوارئ المعلنة منذ عام 1963، والتي توفر للسلطات ما تقهر به المحتجين والمعارضين، فتمثل مؤشراً قوياً على أن النظام أكثر اهتماماً وتشبثاً بالسلطة من دعم مطالب الإصلاح السياسي.

وبالنظر إلى الاختلافات الكثيرة التي يتسم بها المجتمع السوري، بسبب وجود إثنيات متباينة لها أجندة مختلفة عن بعضها البعض، فإنه ليس مرجحاً أن يحدث في سوريا تغيير ثوري سريع مثل ذلك الذي حدث في كل من مصر وتونس. كما سوف تظل القوات العسكرية والأمنية على قوة ولائها للأسد، غير أنه ربما تتسع المعارضة وحركات الاحتجاج من حيث قوتها وفعاليتها.

كما قضت الاضطرابات الجارية حالياً في سوريا على بعض التوقعات والآمال في إصلاح النظام الحاكم وإدماجه في المجتمع الدولي.

لا يزال مجهولاً بعد أي نوع من النظم السياسية ترغب فيه جماهير المنطقة. وعلى سبيل المثال، فرغم ما يبدو من خطابية عدائية بين دمشق وتل أبيب، فإن لكليهما علاقات مستقرة وحسنة منذ عام 1982.

وعلى أية حال، وفيما لو أدت الاضطرابات الحالية إلى إحداث تغيير سياسي رئيسي في دمشق، أو فيما لو فاجأ الأسد كل المراقبين والمحللين بالبدء في إصلاح نظامه، فمن شأن تغيير كهذا أن يشكل انتكاسة كبيرة لأطراف إقليمية طالما استغلت سوريا كجبهة انطلاق لتوسيع نفوذها الإقليمي في المنطقة. ومما لا ريب فيه أن بوسع دمشق تأدية دور تغييري في اللعبة السياسية الشرق أوسطية. بيد أن التوقعات بأن تؤدي سوريا هذا الدور في وقت من المستقبل القريب المنظور، لا تزال بعيدة جداً.