أحمد طه
حمل مشهد الاستفتاء على التعديلات الدستورية بمصر مزيجا من البشارة والنذارة، تمثلت الأولى في المشهد الحضاري الراقي للإقبال الشعبي الواسع المنظم غير المسبوق منذ ستة عقود على التصويت، الذي جاء مغايرا بالكلية لمشهد الانتخابات البرلمانية البالغ الرداءة والسوء منذ نحو أربعة أشهر فقط!
وجاءت الثانية في الاستقطاب الإيديولوجي النخبوي الحاد بين المؤيدين والرافضين للتعديلات، الذي أعادت النخبة المصرية إنتاجه بصورة توحي بأنها لم تتعلم من درس ثورة 25 يناير، التي مثل الشباب النقي -الذي لم يتلوث بأمراض النخبة والناجي من اللوثتين اللتين اجتاحتا الشريحة الشبابية مؤخرا.. كرة القدم والتدين الشكلي- laquo;الكتلة التاريخيةraquo; التي أشعلت شرارة الثورة الأولى، وقادت جموع الشعب بمختلف فئاته وطوائفه، التي بدورها توحدت معه شعوريا في حين أنها لم تتوحد إطلاقا مع النخبة الممزقة المنقسمة دوما التي أدمن معظمها مياسرة الفساد ومسايرة الاستبداد خاصة المعارضة التقليدية.
وكانت الوصاية والتحريض على أساس ديني-عقدي أسوأ وأخطر ما في المشهد، ولتدق أجراس الإنذار مبكرا لوضع حد لاستغلال دور العبادة وخطاب الثنائيات الدينية المغلقة مثل الحلال والحرام والجنة والنار للحشد والتجنيد السياسي، إلى جانب التوظيف السياسي لصحف وفضائيات، عبر حملات إعلامية وإعلانات مدفوعة الأجر، ألحت على الناخبين بشكل فج، بهدف توجيههم نحو مسلك تصويتي محدد.
فالأزمة نخبوية وليست شعبوية، فيجب علينا جميعا أن نقدر مدى دقة وحساسية اللحظة التاريخية، كي تتمكن قاطرة الثورة من بلوغ محطتها الأخيرة بتحقيق كل أهدافها بتأسيس نظام ديمقراطي.
سحب.. وحطب
ويحسن أن نعود خطوة إلى الوراء لنلقي ومضة على أسباب الثورة التي اندلعت بعد مخاض طويل، فقد تجمعت سحبها واجتمع حطبها طيلة عقد، بعدما صارت النخبة الحاكمة laquo;جماعة مغلقةraquo; احتكرت السلطة والثروة، وانعزلت عن المجتمع مما هوى بالبلاد إلى هاوية سحيقة.
ففي الداخل كادت الفتنة الطائفية أن تنشب مخالبها وتغرس أنيابها في الجسد الوطني، واتسعت الفجوة الطبقية إلى درجة مخيفة بين من يرفلون في القصور والمنتجعات ومن يقبعون في القبور والعشوائيات، بسبب تزايد الدور السياسي لرجال الأعمال في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى التردي الشديد في كافة المرافق والخدمات، كما تغولت الأجهزة الأمنية وتوحش بطشها ليطال أبرياء لا علاقة لهم البتة بالسياسة.
خارجيا تعرض المجال الحيوي المصري للعديد من التهديدات، فعلى البوابة الشرقية وقف قطاع غزة ككرة من لهب بعد إحكام النظام الساقط الحصار عليه بشراسة بالغة وفشله الذريع في المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وفي المقابل تفانى في خدمة إسرائيل بإمدادها بالغاز بسعر مخفض على حساب الاقتصاد المصري تنفيذا لاتفاقية laquo;الكويزraquo;.
ولم يسلم نهر النيل من إهمال النظام الساقط، الذي تسببت سياساته الخرقاء تجاه إفريقيا في توقيع دول الحوض على اتفاقية laquo;عنتيبيraquo; التي تعيد توزيع حصص المياه بما يلحق الضرر بالحصة المصرية، وجاء انفصال الجنوب السوداني ليزيد الطين بلة، وصولا إلى التراجع الشديد الذي وصل إلى حد الغياب للدور المصري إقليميا ودوليا.
ثم كانت الانتخابات البرلمانية الأخيرة هي القشة التي قصمت ظهر البعير، والتي أدار إيقاعها الرديء ذو التزوير الفاجر صبية laquo;الفكر الجديدraquo; وكهنة مشروع laquo;التوريثraquo; من مراهقي السياسة بالحزب الحاكم، فخرج المشهد الانتخابي هو الأسوأ في تاريخ البرلمانات المصرية منذ نشأة الحياة البرلمانية عام 1865، فكان أشبه باغتصاب لإرادة الأمة واستباحة شاملة لمستقبلها.
ولا يمكن أن نغفل الدور الذي لعبته الثورة التونسية والنموذج الذي قدمته لمشهد ثوري بديع أطاح بنظام بوليسي استبدادي، شحذ الهمم وحفز الطاقات لمحاكاته بمشهد ثوري مصري.
سكرة.. وفكرة
كانت البداية بانتفاضة شبابية، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعبية، بعد اتساع نهرها أفقيا ليعم كل المحافظات المصرية، ورأسيا ليشمل كافة الفئات والطبقات الاجتماعية. تجاهها انتقل موقف النظام من الاستهانة إلى الذهول، ثم محاولة المناورة وكسب الوقت، فالترنح فالسقوط، تتخللها انفراده بارتكاب جريمة هي الأشنع في التاريخ المصري، عندما سحب الشرطة من مواقعها وأطلق المجرمين والأشقياء من السجون على الشعب، بغية عقابه وتأديبه، فاستحق السقوط المدوي غير مأسوف عليه.
ثم دلفنا إلى المرحلة الانتقالية وهي الأخطر، إذ بموجبها ننتقل من النظام السلطوي إلى النظام الديمقراطي، حيث تنقسم الثورات إلى مرحلتين، هدم النظام القديم ثم إعادة البناء على أسس جديدة، وهنا تبرز الخطوات اللازمة لإتمام التحول بشكل كامل.
فينبغي هدم بنى الاستبداد بالتخلص من أشخاص النظام الساقط ومؤسساته وأدواته؛ لقطع الطريق أمام أية محاولة للثورة المضادة.
فأولا: ينبغي على القوى الثورية أن تتفق على قيادة توافقية تمثلها، و laquo;التمأسسraquo; في تشكيل تنظيمي يتشعب في كل مناطق الجمهورية، تمهيدا لخوض الانتخابات البرلمانية بقائمة ائتلافية موحدة، تضم كافة ألوان الطيف السياسي لقوى الثورة، وهو ما يستلزم الخروج من ضيق الحزازات الإيديولوجية إلى سعة التوافق على الأهداف والمبادئ الكلية، مراعاة لضرورات اللحظة التاريخية.
وبالتزامن مع هذا، يتعين إجراء حوار وطني شامل بين الروافد الفكرية الأربعة للجماعة الوطنية (الليبرالي- الإسلامي- القومي- اليساري) ومكوناتها وشرائحها المختلفة، للتوافق على مبادئ عامة تمثل أرضية مشتركة يقف عليها الجميع، في هذه المرحلة الحساسة التي لا تحتمل البدء بإثارة خلافات إيديولوجية حول تفاصيل قد يمكن التحاور حولها لاحقا.
ثانيا: تأتي المهمة الأصعب والأخطر، وهي تفكيك laquo;الطبقة الطفيليةraquo; التي اعتمد عليها النظام الساقط، وهي طبقة اقتصادية-اجتماعية أرضعت فساده وكبرت وسمنت من laquo;منافعهraquo;، وهي خليط من قيادات أمنية، وأجهزة الحكم المحلي، ورجال أعمال، وموظفين عموم، مثل رؤساء الجامعات، ومديري المؤسسات، بالإضافة إلى ذراعها الإعلامي، فهي تمتلك كافة عناصر الحركة من مال سياسي وقدرات تنظيمية، نظرا للتداخل الشديد بين الحزب الوطني السيئ الصيت والمحليات، والمعركة مع تلك الطبقة من الأهمية والخطورة بمكان، وهي ليست بالهينة أو القصيرة وإنما تحتاج إلى صبر وإصرار.
ثالثا: ترسيخ ثقافة laquo;الانتخابraquo; وتسويد الكفاءات في كافة مؤسسات الدولة بدلا من ثقافة laquo;التعيينraquo; واختيار أهل الحظوة التي اعتمد عليها النظام الساقط، فعين رؤساء الجامعات والمحافظين والعمد، وهو الأمر الذي يستلزم تعديل العديد من التشريعات المنظمة لعمل العديد من الهيئات، كي تستعيد كفاءتها، وهو أمر سيستغرق وقتا حتى تتشرب التربة المصرية آليات المرحلة الجديدة بعد حقبة رديئة، تعرضت فيها مؤسسات الدولة لعمليات تجريف قاسية اقتلعت النخيل وأبقت على الحشائش.
بالتزامن مع الخطوات السابقة، يتعين الإبقاء على جذوة الثورة مشتعلة في العقل الجمعي الوطني، حتى تستكمل الثورة خطواتها وتؤتي أكلها، فوتيرة الإصلاح هي انعكاس لمدى بقاء التوهج الشعبي حاضرا.
من الانقياد.. إلى القيادة
يقول الراحل الكبير د.جمال حمدان في موسوعته الشهيرة laquo;شخصية مصرraquo;: laquo;لا وسط في تاريخ مصر، فهي إما رائدة قائدة، وإما خاضعة ذليلةraquo;. فلا شك أن يد التغيير ستطال السياسة الخارجية لمصر بعد استقرار أوضاعها الداخلية، وأنها سترمم التدهور الذي لحق بمكانة مصر، حيث إن تحقيق أهداف الثورة من شأنه إعادة بناء أدوات القوة الناعمة المصرية التي تعتمد بالأساس على تقديم الدولة نفسها لمحيطها كنموذج يحتذى به، وفقا لمعايير الحكم الرشيد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.
وإذا استحضرنا المسار التاريخي بهدف استشراف آفاق المستقبل، نجد أن مصر وقفت دوما في موقع المصدر وليس المستورد لكافة النماذج الفكرية والسياسية التي ظهرت بالمنطقة خلال القرن الماضي، بدءا من المدرسة الليبرالية، ومرورا بالمدرسة اليسارية والقومية، وانتهاء بمختلف فصائل المدرسة الإسلامية، وجماعاتها المختلفة السلمية منها والعنيفة.
وهذا يعني أن توابع الزلزال المصري ستمتد إلى دول أخرى بالمنطقة، وهو ما نراه بالفعل أمامنا في عدة دول، بالإضافة إلى استعادة الدور المصري لعافيته وفاعليته، وهو ما سيعيد صياغة المعادلات الناظمة للملفات الساخنة في فلسطين والعراق ولبنان، فالفراغ الناجم عن تراجع الدور المصري أخل بالتوازن في أداء النظام الإقليمي العربي وجعله أفقا أخضر لأطراف أخرى من خارجه حاولت القيام بوظائفه، فكانت إسرائيل الطرف المهيمن، وإيران الطرف المناوئ، وأتت تركيا كطرف موازن بينهما.
وبعد أن طوت مصر حقبة من اللاهدف واللارؤية، فلا بد من العمل لأجل مرحلة تستعيد فيها زمام القيادة، بتحرير الإرادة الوطنية، لتتحلى سياستها الخارجية باستقلالية تحافظ على مصالحها الوطنية، وتليق بها كدولة مفتاحية بالمنطقة، خلافا لما فعل النظام الساقط الذي ألغى الإرادة الوطنية، ووضع كل البيض في سلة الولايات المتحدة، واكتفى بالدوران في فلك سياساتها، إلى جانب تفانيه في تنفيذ اتفاقية كامب ديفيد من طرف واحد، في حين ارتكب الطرف الآخر العديد من الانتهاكات، وهو ما يفسر حالة الذعر التي انتابت إسرائيل أثناء الثورة، والتي ظهرت سافرة في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بعد أن فوجئوا بما لم يكن في حسبانهم، الذين يخشون من استفاقة مصرية تخلط الأوراق في المنطقة وتعيد ترتيبها من جديد بشكل يهدد المصالح الإسرائيلية.
ولا يعني هذا أن يقوم النظام الجديد بانتهاج سياسة تثير الزوابع الإقليمية، أو يتخذ خطوات خشنة من شأنها توريط مصر في صراعات تستنزف قواها، وإنما يعني تبني خيارات استراتيجية تحفظ ثوابتها الوطنية وسيادتها، وتعيد إليها هيبتها وريادتها.
وفي خطوة تنسجم مع الذعر الإسرائيلي، قاتلت السياسة الأميركية مستميتة في تعاطيها مع الثورة، كي تبقى في المنطقة الوسط بين الثوار والنظام، وحاولت جاهدة الإبقاء على هيكل النظام بعد أن قبلت بالتضحية برأسه، فالعلاقات المصرية-الأميركية هي علاقات ثلاثية الأبعاد وليست ثنائية تضم مصر والولايات المتحدة وإسرائيل، حيث ركزت السياسة الأميركية والإسرائيلية معا خلال الثلاثين عاما الماضية على شل الدور المصري، وتدمير قدراته وأدواته، وإخراج مصر خارج المعادلات الإقليمية لتحل إسرائيل محلها، ولقد وضعت الثورة حدا لها، فمن المتوقع أن تنال الازدواجية التي اتسمت بها سياسة الولايات المتحدة بشدة من علاقاتها مع مصر الثورة، بعد أن سقطت مصداقية الولايات المتحدة أمام الشعب المصري وشعوب المنطقة، فظهرت كداعم رئيسي للنظم الاستبدادية، وهو ما يتناقض بالكلية مع ما ترفعه من شعارات براقة لدعم الديمقراطية وكفاح الشعوب من أجل الحرية.
انقلاب المعادلة
لا شك أننا نقف أمام لحظة تاريخية فارقة، ليس في تاريخ مصر فحسب، بل في تاريخ العالم العربي، نبدأ فيها مرحلة laquo;الاستقلال الثانيraquo; بتحرير الأوطان من قوى laquo;الاحتلال الداخليraquo; باستعادة الشعوب زمام المبادرة، لتكون صاحبة الكلمة العليا.
ومن المؤكد أنها تحمل روحا جديدة تسري في مصر والمنطقة بأسرها تعيد إلى شعوبها ثقتها بقدرتها على تغيير الواقع وصناعة المستقبل، انطلاقا من التمسك بالنهج القويم، والاعتماد على طاقاتها الذاتية، والاستعداد للتضحية ودفع الثمن، فلأول مرة منذ عقود طويلة تقف الشعوب العربية في موقع الفعل والقوى الغربية في موضع رد الفعل -التي بالطبع ستحاول بكل قوتها إخراجها عن مسارها وتفريغها من مضمونها باستيعابها والالتفاف حولها- وهو ما سيكون له تداعيات كبيرة، لاسيما في ظل التحولات الجارية في بنية النظام الدولي، معلنة بوضوح نهاية عصر الآحادية القطبية.
التعليقات