سليمان صالح


لكي نقيم نظاماً إعلامياً يليق بمصر وبدورها الحضاري والعربي والإنساني يجب أن نحاكم النظام الإعلامي الذي أقامه نظام مبارك الاستبدادي.
وهذه المحاكمة يجب أن تقوم على دراسة علمية تصف الواقع وتفسر النتائج، فالعلم يجب أن يشكل أساسا لبناء المستقبل الذي يمكن أن يتم بناؤه على أسس صحيحة دون دراسة حقيقية للماضي.
ومحاكمة النظام الإعلامي المصري يجب أن تنطلق من أن الفساد لا يقتصر فقط على نهب أموال مصر بواسطة السلطة ورجال الأعمال الذين ارتبطوا بها، لكن مفهوم الفساد يتجاوز ذلك ليشمل الفساد السياسي مثل تزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية وتضليل الشعب وتزييف وعيه وإخضاعه للاستبداد وتبرير قرارات السلطة والترويج لها، وتصنيع صورة زائفة لنظام حكم فاسد.
وهنا يظهر دور وسائل الإعلام التي سيطرت عليها السلطة واستخدمتها طوال ثلاثين عاما للسيطرة ثقافيا وإعلاميا على الشعب، والتحكم في المعلومات والمعرفة التي تصل إليه.
وأهم ما يمكن أن تكشفه دراسة الواقع الإعلامي المصري أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر، ففي الوقت الذي تكافح فيه كل دولة لزيادة قوتها الإعلامية، وزيادة عدد وسائلها الإعلامية، وتقوية صناعة المضمون حيث تربط شعبها بثقافتها، وتشبع الاحتياجات الإعلامية والمعرفية لشعبها، إلا أن نظام مبارك كان كل هدفه أن يتحكم في المعلومات والمعرفة التي تصل إلى الجماهير بنفس الأساليب التي استخدمتها السلطات الديكتاتورية خلال الخمسينيات والستينيات دون وعي بالتطورات العالمية في مجال الإعلام، ودون الاهتمام بتأثير التحكم السلطوي على القوة الإعلامية لمصر.
هذا يعني أن كل قيد على حرية الإعلام يمكن أن يؤثر سلبيا على القوة الإعلامية للدولة، لذلك فإنه لا يجوز فرض أي قيود قانونية أو سلطوية دون شرعية سياسية واجتماعية لهذه القيود.
لكن نظام مبارك فرض على الإعلام الكثير من القيود القانونية والسلطوية دون الاهتمام بدراسة تأثيرها على الدور الثقافي والحضاري لمصر، ودون الاهتمام بشرعية هذه القيود وحاجة المجتمع لها.
هذا يعني أن السلطة كانت تفرض هذه القيود لتحقيق مصلحتها الخاصة، ولإخفاء ما ترتكبه من جرائم سياسية واقتصادية، وليس لتحقيق المصالح العامة، بل إن هذه القيود تتناقض مع المصلحة العامة للمجتمع المصري، وتعتبر جريمة في حق مصر، دراسة الواقع الإعلامي المصري توضح أن السلطة أضعفت القوة الإعلامية لمصر عن طريق استخدام وسائل لإعلام لتحقيق مصلحتها في التحكم في تدفق المعلومات للجمهور، وتدفق المعلومات من مصر إلى الخارج.
وكان من أهم نتائج التحكم السلطوي في وسائل الإعلام المصرية أن تناقضت مصداقية هذه الوسائل، ولم تعد تشكل مصدرا للأخبار والمعلومات يعتد به، أو تعتمد الجماهير عليه لذلك انصرفت الجماهير في مصر إلى وسائل إعلامية غير مصرية لمتابعة الأحداث حتى تلك الأحداث التي تحدث في مصر.
وتوضح دراسة تغطية وسائل الإعلام المصرية لثورة 25 يناير مدى ضعف هذه الوسائل، وأن السيطرة السلطوية قد شلت قدراتها المهنية، فهذه الأحداث لا يمكن لأي وسيلة إعلامية تريد أن تنجح في جذب الجمهور أن يتجاهلها.
لكن وسائل الإعلام المصرية تجاهلت أحداث الثورة لفترة طويلة، وركزت قنوات التلفزيون الرسمية على مظاهرات ميدان مصطفى محمود المؤيدة لمبارك، وتجاهلت المظاهرات المليونية في ميدان التحرير التي تطالب بإسقاط النظام، كما وجهت الكاميرا إلى نهر النيل بهدف إعطاء الانطباع بعدم وجود أي أحداث.
وأسلوب تجاهل الحدث يشير إلى تخلف الذين يديرون وسائل الإعلام المصرية، وعدم إدراكهم للتطورات الاتصالية العالمية.. فكل ما حدث هو أن الجماهير المصرية قد اعتمدت على قنوات غير مصرية أهمها الجزيرة التي ازداد نجاحها بشكل كبير وشجعها هذا النجاح إنشاء قناة الجزيرة مباشر مصر.
لذلك فإن مصر تحتاج إلى محاكمة نظامها الإعلامي، وكل من قادوا بإدارته، وإضعاف مصر إعلاميا، وذلك كخطوة مهمة لإقامة نظام إعلامي جديد يحقق القوة الإعلامية لمصر، وتتناسب مع دورها الحضاري والثقافي.