إسلام الشافعي
عرفت مصر أربعة رؤساء منذ قيام ثورة يوليو 1952.. تعاطف المصريون مع الأول، واختلفوا حول الثاني والثالث، أما رابعهم فثاروا عليه.. ما الفارق بين الرؤساء الأربعة؟.. ولماذا أصر المصريون على تمييز الرابع عن سابقيه بالخلع والمحاكمة؟.. كان الرئيس الأول محمد نجيب واجهة الثورة.. لم يمهله الضباط الثوار ليترك أثراً يذكر.. لكن المصريون أحبوه وتعاطفوا معه لما علموا أن حبسه في قصر المرج كان ثمناً لسعيه لإعادة الحياة الديمقراطية للمصريين.. وأن ابنه لا يملك سوى تاكسي يعمل عليه بنفسه.. أما الرئيس الثاني جمال عبد الناصر والذي عشقه الكثير من المصريين والعرب.. فأمضى حياة حافلة بالأحداث الكبرى.. تأميم، مجانية تعليم، سد عال وإصلاح زراعي، قومية، اشتراكية، عدم انحياز.. تناطح إيديولوجيات.. وأخيرا سلسلة من الحروب انتهت بهزيمة مخزية.. ألحقها بمحاولات إصلاح لم يمهله القدر لاستكمالها.. ورحل ناصر زعيما.. شيعه المصريون بلطم الخدود.. وسواء اتفقنا أو اختلفنا معه ومع سياساته وما آلت إليه البلاد في عهده.. إلا أن الرجل بقي له في ذاكرة المصريين أنه لم ينشغل يوما طيلة فترة حكمة بغير مصر.. فكر واجتهد، أصاب و أخطأ.. لكن كان الهدف دوماً مصر والمصريين.. من أجل هذا كبر الرجل في أعين المصريين.. وغفروا له اجتهاده وخطأه،وودعوه بالحب والدموع.. ويجئ الرئيس الثالث محمد أنور السادات ليتسلم قيادة السفينة.. فيجد دولة مثقلة بالديون.. وجيش مهزوم، وأرض محتله، وشعب فقد إيمانه بالكثير من ثوابته.. وعصابة من مراكز القوة ممسكة بكافة خيوط اللعبة ترفض أن تغير أو تتغير.. وفي صمت، وبعيدا عن quot;الحنجوريةquot;.. فكر الرجل وخطط.. أعاد ترميم البيت من الداخل.. ثم أعاد للجيش المصريquot;الفهد الجريحquot; ثقته في نفسه.... وكان قرار الحرب مع كل ما أحاط به من مخاوف وتحذيرات الحلفاء.. انتصر الجيش.. عادت الأرض.. وأعاد للمصريين والعرب كرامتهم.. أدرك خطورة الاستمرار في حالة الحرب.. فكان قرار السلام بكل ما صاحبه من جهد و زوابع.. صمد الرجل وأصر على أن يعيش شعبه آمناً بعيداً عن الحروب.. لم ينتظر طويلا وعاد للتفكير في حياة الشعب المصري.. فكانت قرارات الانفتاح.. والسعي لإنعاش الاقتصاد المصري.. لم يتوقف تفكيره في المصريين عند حاضرهم فقط.. بل امتد لمستقبلهم أيضاً.. فكانت سلسلة من مشاريع البنية التحتية.. مدن جديدة.. مترو أنفاق، وكباري.. ولم تمهله أيادي الغدر ليفتتح بنفسه مشاريعه التي مازلنا نحصد ثمارها لليوم.. ومضى الرجل للقاء ربه بعد حياة حافلة بخدمة الوطن فعلاً لا قولا .. نصر و سلام.. تخطيط وإعادة بناء.. وأحلام للأجيال القادمة.. ويكفي أن نذكر كيف رحل الرجل بعد توجيهه للعالم فاروق الباز، والوزير حسب الله الكفراوي بدراسة مشروع ممر التنمية لتنفيذه.. وكيف أننا لليوم مازلنا نحلم به quot;مجرد حلم شبه مستحيلquot; لمشروع قومي لمستقبل مصر بعد رحيله بثلاثين عاماً كاملة.. قد نتفق أو نختلف حول الرجل.. لكن لا يمكن أن يختلف عاقلان حول ساعة واحدة قضاها من حكمه يفكر في غير مصر ومستقبل شعبها.. وفي النهاية رحل الرجل بالطريقة التي ينشدها أعداء مصر على مر التاريخ.. ويجئ الرئيس الرابع حسني مبارك.. ليتسلم الرجل دولة منتصرة، وجيش فتي، وحدود آمنه.. وسط حالة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، بل وسلام مع العدو الرئيسي لمصر.. وحفنة من المشاريع القومية يصل مداها لقرن كامل.. ومضت سنوات حكمه الأولى في محاولات للنهوض بالاقتصاد.. عادت جامعة الدول العربية لبيتها في القاهرة.. بدا الأمر طبيعياً لا نقول روتينيا.. تسيير للأمور أشبه ما يكون بمهام النائب لحين عودة الرئيس..إلى أن أحاطه الفاسدون.. فانقلب الأمر رأساً على عقب.. كان الفساد هو الأصل والشرف هو الاستثناء.. توقف العمل من أجل مصر.. وأصبح نهب مصر هو العمل.. فقد أبناؤها الأمل في الحاضر والمستقبل.. فشهدت مصر أكبر هجرة في تاريخها لأبنائها على مر العصور(8 ملايين مغترب).. وتحولت من دولة جاذبة للهجرات من كافة الأشكال والألوان..إلى دولة طاردة للعمالة والعقول.. وأصبح الهروب من جحيم عصابة مبارك حلم كل مصري، حتى ألقى الشباب بأنفسهم في البحر هربا من الوطن!.. فقد المصريون الأمل في وطنهم وهم يرونه يباع أمام أعينهم بثمن بخس ولا يرون عائد للبيع.. رأوا بأعينهم شحاذون تحولوا لمليارديرات بمجرد اقترابهم من دوائر السلطة.. وسمعنا عن أراض ساحلية توقف بيع مترها للشعب بـ60 جنيها، لتمنح بخمسة جنيهات لأحد التابعين ليعيد بيعها للشعب بأكثر من 1500جنيه للمتر.. 30 عاما زكم فيها الفساد أنوف المصريين.. 30 عاما لم يعرف الشباب فيها سبيلاً للنجاح إلا النفاق والانتهازية.. لم يروا نابها قدر قدرة، لم يروا فيها إلا الفاشلين والخدم فقط في المقدمة.. فغاب الانتماء ولم يرفع المصريون علم بلادهم إلا في مباريات الكرة.. هانت مصر في عين رئيسها الرابع فهانت في أعين الآخرين.. أهدر كرامة المصري، حتى جاءت وزيرة له quot;بالإعداديةquot; تعرض المصريات للعمل كخادمات للآخرين.. فتراجعت مصر وهانت في أعين الآخرين و تجرأوا عليها.. وللفساد و الإهانة وتدمير مقدرات مصر قصص لا تتسع مجلدات لها.. لكن يمكننا إجمال ذلك في جملة واحدة.. فعل مبارك وأتباعه بمصر أكثر مما حلم به أعداؤها يوما.. وحتى لا يتهمنا quot;فله من الفلولquot;بالتحامل على حكم مبارك.. نذكر ما يقوله عنه محبوه و منتفعيه.. وهؤلاء لا يذكرون له إلا ثلاثة فقط.. أنه حافظ على الاستقرار ولم يزج بمصر في حروب طيلة حكمة.. ولهؤلاء نقول وهل كانت مهمة الرئيس تدمير الوطن.. لقد جنى الرجل ثمار معاهدة السلام التي نعم بها الجميع إلا من وقعها.. واسألوا حسين سالم وأشباهه.. والثانية استثمارات ومدن جديدة.. ولهؤلاء نقول رأى الشعب الاستثمارات والمليارات ولم يذق ثمرتها، بل كانت للمستثمرين وآخذي الإتاوات.. أما المدن الجديدة وفي مقدمتها أكتوبر(السادات) فلم تمتد لها الأيادي في عهد مبارك إلا لحرمان المصريين البسطاء منها.. وبالطبع لا دخل لسواد الشعب المصري بملاعب الجولف ومدنquot;عرابيquot; وquot;مدينتيquot; وquot;بالمquot; وأخواتهن.. أما الثالثة التي طالما منّ بها علينا الرئيس الرابع و مريديه، دوره في حرب أكتوبر.. فهؤلاء يمنون علينا وكأنه لم يكن من واجبه كضابط بالجيش أن يشارك في الحرب وسط 10 من القادة العظام.. وكأنه لم يشارك أكثر من مليون مصري في تلك الحرب وقبلها أربعة حروب.. يمنون علينا بخدمة مبارك الضابط في الجيش ونسوا أن أغلبها كان في وحدات تعليمية، وليست قتالية كالآلاف الذين ما تزال أجسادهم تحمل آثار الحروب إلى يومنا هذا.. انشغل نجيب وناصر والسادات بمصر طيلة حكمهم ولم نسمع عن أرصدة بالمليارات أو حتى الملايين لأي منهم في الداخل أو الخارج.. وتساءل العقل الباطن للشعب الذكي أي شئ كان يشغل مبارك؟.. مصر أم البقاء في حكم مصر؟.. فرصة عمل للشباب المصري أم فرصة عمل لابنه الصغير؟.. السعي لتحويل مصر دولة قوية رائدة كناصر والسادات، أم لتحويلها عزبة للمحاسيب؟.. عرف المصريون بفطرتهم الإجابة ورأوا النفق المظلم المنطلقون نحوه بسرعة الـquot;ميجquot;.. وكان القرار الطبيعي للمصريين بخلع الرئيس الرابع وعدم التنازل عن محاكمته بعد أن أعطوه كل شئ (أو أخذه هو منهم) ولم يلقوا إلا الازدراء والإهمال.
التعليقات