أنقرة - يوسف الشريف


تثير الانتباه كمية التسريبات التي تتعمد الحكومة التركية نشرها في الإعلام المقرب منها هذه الأيام حول الموقف من سورية، والتي تصب جميعها في القول بأن أنقرة هي التي تمسك يد واشنطن عن البطش بنظام الأسد والإطاحة به، وأن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان طلب من واشنطن إعطاء الرئيس السوري بشار الأسد فرصة جديدة، على الأقل حتى انتهاء الانتخابات التركية في 12 حزيران (يونيو) المقبل، كي تلتفت أنقرة حينها لملف الجار السوري، ويترافق ذلك مع تعليقات تتوقع أن يتغير موقف أردوغان في شكل جذري بعد الانتخابات من الأسد ليقطع شعرة معاوية معه حينها.

يأتي ذلك بالتوازي مع تصريحات أردوغان التي تثير علامات التعجب والاستفهام في شأن سورية، فهو تارة يصف الأسد بصديقه، وتارة أخرى يتهمه في شكل غير مباشر بالكذب فيقول إن عدد القتلى من المدنيين السوريين تجاوز الألف وليس كما تقول دمشق، وأنه لا يؤمن بنظرية المؤامرة التي يروج لها النظام السوري.

لا شك في أن واشنطن تود أن تسمع نبرة أقوى من أنقرة في تصريحاتها تجاه الأسد، وهذا ما نقله السفير الأميركي فرانسيس ريكاردوني الى أردوغان خلال لقائهما الذي استمر 50 دقيقة ولم يحضره أحد غيرهما إذ تحدث ريكاردوني الى أردوغان باللغة التركية التي يتقنها.

وبعد خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي طلب فيه صراحة من الرئيس الأسد أن يقود الإصلاح أو يتنحى، فأنه من المتوقع أن يصعد أردوغان من لهجته، لكن المساحة الزمنية التي تركها أوباما مفتوحة أمام الأسد في هذا الخطاب ستجعل أنقرة ترصد الحركة القادمة من واشنطن. إذ لا نية لأردوغان في فك الارتباط بالأسد قبل واشنطن، ولا فائدة من الانقلاب على الجار السوري طالما بقيت أنقرة مقتنعة بأن صبر واشنطن لم ينفذ بعد أو أن مصالحها لا تدفعها للاستعجال بالسعي لحسم الملف السوري من خلال إعلان نزع الشرعية عن الأسد ونظامه كما يطالب الكونغرس اليوم. ولولا الأجواء الانتخابية التي جعلت من الملف السوري أحد أجنداتها في الإعلام والشارع، لكانت تصريحات أردوغان أهدأ صيغة وأقل تكراراً.

وعلى ما يبدو فان المهلة الزمنية التي يتم الحديث عنها ndash; إن صحت ndash; تمتد لإفساح المجال أمام صدور قانون الأحزاب السوري الجديد وإعلان موعد جديد للانتخابات البرلمانية على خلفية القانون الجديد، ومن المتوقع الإعلان عن قانون الأحزاب السوري الجديد ndash; بحسب التصريحات السورية السابقة ndash; بداية حزيران المقبل، ولعل صيغة القانون وإرهاصات تطبيقه على الأرض هي التي ستحدد تمديد المهلة الزمنية الممنوحة لدمشق من عدمه. فأول تصريح ينتظر أردوغان أن يدلي به بعد أن يفرغ من الانتخابات سيكون تقييم قانون الانتخابات السوري وتطبيقاته.

أنقرة تدرك جيداً أنها ستكون حجز الزاوية في أي تحرك لإطاحة النظام السوري، بسبب قربها الجغرافي وعلاقاتها المتميزة بواشنطن وقدراتها الاستخباراتية والأمنية، وقربها من الشعب السوري أيضاً واتصالاتها حالياً مع جميع أقطاب المعارضة. لكنها تصر على ألا تكون أول من يرمي النظام السوري بحجر، لأنها تعلم من تجاربها السابقة بأنه لا يمكن الوثوق بالشريك الأميركي الذي يمكن أن يعقد صفقات اللحظة الأخيرة وراء الأبواب، وقد حصل هذا في العراق ومع إيران سابقاً.

كما أن تركيا قلقة ndash; بحسب تصريحات أردوغان ndash; من تحول الأمر الى حرب أهلية طائفية في سورية، وهو أمر سينعكس سلباً على تركيا التي تشارك سورية في همها العلوي والكردي، فهناك نحو مليون ونصف المليون علوي تركي في لواء الاسكندرون التركي هم من امتداد عشائر العلويين في الساحل السوري التي ينتمي إليها أهم أقطاب النظام، كما أن حزب العمال الكردستاني الذي أعلن الحرب من جديد على تركيا سيستفيد بلا شك من فتح الجبهة السورية إن أفلتت الأمور في سورية أمنياً.

لذا فإن القلق وخيبة الأمل هما ما يطغى على الموقف التركي الذي يرفض اتخاذ موقف واضح لكنه يستعد من الآن لجميع الاحتمالات بما فيها سقوط النظام السوري. وعلى رغم كل ما يقال عن تدهور العلاقات بين دمشق وأنقرة فأن الحقيقة هي أنه لا يزال هناك تواصل واتصال، وأن الجناح الأمني المتشدد في سورية وجناح رامي مخلوف يشنان حملة تخوين ضد حزب العدالة والتنمية التركي ويتهمانه بالسعي لدعم الإخوان المسلمين السوريين والعمل مع واشنطن للضغط على دمشق من أجل نزع ورقة المقاومة وقطع العلاقات مع حزب الله اللبناني وإيران، وهو أمر يعكس السوداوية التي يفكر بها هذا الطرف، فأنقرة لم تخف أبداً منذ بداية علاقاتها بدمشق أن أحد أهم أهداف هذه العلاقة هو إضعاف الرابط السوري الإيراني وسحب الورقة السورية ومتعلقاتها من يد طهران، وهذا ما ردده الديبلوماسيون الأتراك في أروقة الديبلوماسية في واشنطن والاتحاد الأوروبي، مع الفارق بأن أنقرة اليوم تبدو غير مقتنعة بأن واشنطن أو غيرها يمكنها إنقاذ دمشق مما هي فيه حتى لو وافقت على هذه الوصفة.

أما بعيداً عن جناح مخلوف ndash; الأمن فأن هناك اتصالات بين الأسد وأنقرة عبر قنوات مفتوحة لم تتسلل مقولات التخوين إليها بعد، صحيح أن الخلاف قائم بين الطرفين على ما يحدث، لكن لا يزال هناك قدر من تراث علاقة شخصية وعائلية استمرت سبع سنوات، وإرث تنسيق ديبلوماسي وسياسي ناجح لا يمكن إنكاره في ما يخص قضايا المنطقة، لذلك فأن التأثير التركي في دمشق ما زال ممكناً لكن قدرته تتراجع أمام إحكام الجناح الأمني في دمشق قبضته على سير الأمور على الأرض.