ياسر الزعاترة

عقب كل تقرير عن سوريا تضطر فضائية الجزيرة لاستضافة كاتب أو ناشط مقرب من الدوائر الرسمية، وتعبير laquo;مقربraquo; هو من باب السخرية لا غير، لأن من يدافع عن النظام وممارساته لا يمكن أن يكون مقرباً فقط، بل لا بد أن يكون ممن يجلسون في حضن النظام ويتمتعون بامتيازاته.
لا شك أن تلك خطوة ذكية من النظام، لأن هؤلاء laquo;المقربينraquo; يقدمون خطاباً أفضل في سياق الدفاع عنه من مسؤوليه فيما لو ظهروا على الهواء مباشرة وتعرضوا لأسئلة المذيعين، لاسيما أن الكتاب إياهم أكثر قدرة على التبرير في أغلب الأحيان، فيما سيكون بوسعهم مجاملة الناس وإظهار استقلاليتهم عبر الاعتراف ببعض الأخطاء وضرورة الإصلاح، مع القول إن ذلك لا يتم عبر الغوغائية والإرهاب إلى آخر تلك المصطلحات التي يستخدمونها كل يوم. وفي ذات السياق يضطر مذيعو الجزيرة للاستماع إلى وصلات من هجاء محطتهم من أولئك النفر، معطوفة على دروس في المهنية والموضوعية.
ثمة نكتة يرددها عباقرة النظام كل يوم تقول إن على من يريد التظاهر أن يتقدم بطلب إلى وزارة الداخلية، ولا يخرج إلى الشوارع بطريقة غوغائية، لكأنهم يتحدثون عن سويسرا وليس عن سوريا. أما laquo;اللفتة العبقريةraquo; التي يظنون أنهم من خلالها يفحمون خصمهم فتتعلق بعدد المتظاهرين، حيث يسألون مذيع الجزيرة بذكاء يحسدون عليه: laquo;كم عدد المتظاهرين الذين تتحدثون عنهم، مع أنكم تبالغون بالطبع، هل هم ألف، عشرة، ليكونوا مئة ألف، بل ليكونوا مليوناً، ماذا عمن تبقى من الشعب، وهم 23 مليوناً من البشر؟raquo;.
يا الله، تلك هي الأغلبية الصامتة، بحسب هؤلاء، وهي أغلبية ترفض ما يجري من احتجاجات، وتصرّ على الإصلاح التدريجي في ظل النظام المقاومة والممانع (نصرّ على أننا لا ننكر هذا، لكنا لا نرى المقاومة والممانعة نقيضاً للحرية والديمقراطية)، لكأن هؤلاء قد استفتوا تلك الأغلبية وقرروا أنها مع النظام بكل جوارحها، وأنه لو أطلق لها العنان، فستأكل المتظاهرين في الشوارع بأيديها وأسنانها دفاعاً عنه!!
لا بأس أيها المحللون البارعون. إذا كانت الأغلبية الصامتة مع النظام، وإذا كانت الملايين، كل الملايين معه بقلبها وروحها، فلماذا تخافون من الحرية والديمقراطية إذن؟! لماذا لا تشرّعون الأحزاب والنقابات، ولماذا لا يخوض حزبكم الحاكم (حزب البعث) انتخابات حقيقية في مواجهة القوى الأخرى حتى يعرف حجمه، ولماذا يخاف السيد القائد من انتخابات رئاسية حرة وشفافة كي يتأكد أن كل الجماهير تهتف حقاً باسمه ومن أجل بقائه إلى الأبد على طريقة أبيه laquo;إلى الأبد يا حافظ الأسدraquo;؟
من كان متأكداً من أن وقوف الناس معه، لن يخشى مواجهة الناس، بل سيعلن في المدائن بالصوت العالي قائلا: بينا وبينكم الصناديق أيها الغوغاء، فتفضلوا إليها، وذلك بعد أن تجري صياغة قوانين ناظمة للحياة الحزبية والسياسية الحرة، وهي بالمناسبة ليست اختراعاً عظيما يحتاج إلى لجان تمضي سنوات من اللقاءات واللت والعجن.
والحق أنهم يعلمون تمام العلم أن الأغلبية الصامتة ليست معهم، بل هي مع المتظاهرين في الشوارع. مع الشهداء وأسرهم. مع الأسرى الأبطال. مع الذين يضعون أرواحهم على أكفهم، فيبادرون للاتصال بالفضائيات لفضح القتلة.
الأغلبية الصامتة ليست في واقع الحال سوى الأغلبية المرعوبة، فالتظاهر هنا في سوريا ليس مثل التظاهر في مصر أو اليمن، إنه تظاهر مكلف، لأن من سيخرج إلى الشوارع سيكون عرضة للموت أو السجن باحتمال كبير جداً قياساً إلى الدول الأخرى.
لو كان المشهد مختلفاً لرأينا مظاهرات مليونية حقيقية، ربما أكبر من اليمن، ولن يعثر النظام على بضع مئات من الآلاف يحشدهم كما يفعل علي عبدالله صالح، مع أن أكثرهم يُحشدون من خلال المال والقات كما يعرف الجميع، وقلة منهم مَنْ جاؤوا قناعة بإبداعه في الحكم!!
في سوريا ليس ثمة أغلبية صامتة، بل أغلبية مرعوبة، لكن الذين خرجوا ويخرجون هم الأبطال الذين يعبرون عن ضمير الشعب، فيما يعلم الجميع أن الجزء الأكبر من الناس لا يتظاهرون في الأوضاع الطبيعية لاعتبارات الظروف الخاصة بهم، مثل طبيعة العمل أو النساء ذوات الأطفال، أو الأطفال أنفسهم أو كبار السن إلى غير ذلك. وفي سوريا تحديدا عندما تخرج كل هذه الحشود التي لا تجمعها سوى كلمة حرية، وحيث لا أحزاب ولا تنظيمات حقيقية، وحيث مخاوف الموت والاعتقال، فإن ذلك يؤكد أنها (أعني الحشود) تعبر عن الأغلبية الصامتة أكثر من الحشود التي يجري تجميعها بالتخويف من أجل الهتاف بحياة الرئيس وبقاء حزبه العظيم!!