وائل مرزا

كثيرةٌ هي الأكاذيب التي توصف بها ثورة الحرية والكرامة في سوريا. وعديدةٌ هي الشبهات التي تُثار حولها.
لكن الأكذوبة الكبرى التي ترتقي إلى حدّ الخرافة تتمثل في مقولة laquo;غياب البديلraquo; التي يروّج لها النظام السوري من جانب، ويجري الحديث عنها في بعض دوائر الإعلام والمجالس السياسية الإقليمية والعالمية علناً أو همساً، من جانبٍ آخر.
يقولون في الأمثال الشامية ما معناه laquo;إذا أردت أن تكذب كذبةً يصدّقها الناس فاجعلها كذبة معقولةraquo;. من هنا، فإن من يعرف شيئاً عن سوريا التاريخ والحضارة، وما قدّمته للدنيا بأسرها من المبدعين والقادة في كل مجال، يدرك أن الخرافة المذكورة هي آخر ما يمكن الحديث عنه في معرض تحليل طبيعة الثورة السورية ومآلاتها القادمة.
يطول الحديث في تفاصيل تاريخية تثبت ما نتحدث عنه، فنكتفي هنا بإيراد ما كتبه محمد حبش، عضو مجلس الشعب السوري، في صحيفة قاسيون بتاريخ 25 مايو 2010م في مقال طويل له، يجب أن يُقرأ اليوم مرة أخرى، بعنوان laquo;العروبة.. الأبعاد الحضارية والكتلة التاريخيةraquo;، حيث كان مما قال فيه: laquo;سوريا في التاريخ منطلق الديانات السماوية الثلاث الإسلامية والمسيحية واليهودية، وفيها عاشت الديانات بطوائفها حياة الأمة الواحدة، وفيها عاش الفلاسفة وعلماء الدين والقدّيسون والشّعراء والمستكشفون والفاتحون. وفيها بعض من أشهر أسماء التاريخ القديم والكلاسيكيّ أمثال: سارجون، حامورابي، أشوربانيبال، سميراميس، زينو الرّزين، هانيبال، زنوبيا، إفريم الإمبراطورة البيزنطية السورية ثيودورا، برج الأسد الإمبراطور البيزنطي إيسورايان، ومن منطقة الهلال الخصيب هناك على الأقلّ ستّة أباطرة للإمبراطوريّة الرّومانيّة (سيبتيميس سيفيرس، جيتا، كاراكالا، إلاجابيولس، سيفيرس أليكساندر وفيليب العربيّ) وعلى الأقلّ خمسة باباوات (أنيسيتس، جون ف، سيرجيس الشّارع، سيسينيس وجريجوري الثالث)raquo;.
هل هذه إذاً سوريا التي لا يخرج من رحمها قادة، رجالاً كانوا أو نساءً!؟..
هل هذه نفسها سوريا التي أصبحت حاضرتها دمشق عاصمةً لأكبر دولة في العالم أيام الدولة الأموية؟ البلد الذي ذكّرَنا حبش في مقاله المذكور أنه كان له laquo;شغلٌ آخر في الريادة الإسلامية فهي الأرض الوحيدة التي حرك إليها النبي الكريم جيشه خارج جزيرة العرب وهو يردد: laquo;اللهم بارك لنا في شامنا ويمنناraquo; في إرادة واضحة لرسالة التحرر التي ما فتئ يتطلع بها ثوب الشامraquo;.
وهي البلد الذي قاده نور الدين زنكي فوحّده أولاً مع مصر، ثم تعهّدَ صلاح الدين الأيوبي على أرضه بالرعاية والعناية، إلى أن جعله قائداً لا يوجد أحدٌ يجهل اسمه ودوره في التاريخ من مشرق الدنيا إلى مغربها.
سوريا هي التي خرجَ منها مفكرون وقادة ومنظّرون يعرفهم جميع العرب في مطلع القرن العشرين، ومن مائها ارتوى زعماء الثورة السورية الكبرى ورجال الاستقلال العظماء من كل المذاهب والملل والنحل والطوائف.
من هذا البلد خرج عبدالرحمن الكواكبي وميشيل عفلق وسلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي وحسن الخراط وعبدالرحمن الشهبندر وأحمد مريود وجميل مردم وفارس الخوري وشكري القوتلي وفخري البارودي وفوزي القاوقجي وعزالدين القسام وسعدالله الجابري وتاج الدين الحسيني ومصطفى السباعي ومئات غيرهم ملأوا سمع الدنيا وبصرها.
لم تعدم سوريا الكبيرة أبداً وجودَ من يقود ومن يفكّر ومن يصنع التاريخ. كانت صابرةً تعضُّ على جراحها في العقود الأخيرة، لكن رجالها ونساءها كانوا دائماً حاضرين. ومنذ أكثر من عشر سنوات، وفي يوم 27 سبتمبر من عام 2000م تحديداً، وقّع تسعة وتسعون رجلاً وامرأة بياناً يطالب بإصلاحات تكاد تتطابق إلى حدٍ كبير مع مطالب الشعب حين تفجرت الثورة الشعبية في أول أيامها. وبعدها بأسابيع وقّع ألفُ رجل وامرأة كانوا يمثلون صفوة الشعب السوري في كل حقلٍ ومجال بياناً مشابهاً آخر.
لم يكن هؤلاء شذاذ آفاق. لم يكونوا هواة إصدار بيانات. لم يكونوا باحثين عن الأضواء والشهرة.
وإنما كانوا مناضلين باحثين عن الإصلاح. كانوا يطالبون بحق المشاركة في صناعة حاضرٍ ومستقبلٍ أفضل، لوطنٍ يستحق أن يكون أفضل.
فماذا كان مصيرهم؟ السجون والمعتقلات والنفي والتشهير، والتجاهل في أحسن الأحوال. وعلى مدى عقدٍ من الزمان، عاشت سوريا معهم وبهم مشهداً مأساوياً مظلماً يعرفه السوريون جيداً، وإن جَهله أو تَجاهله اليوم أولئك الذين يتساءلون، وأحياناً ببلاهة، عن laquo;البديلraquo;.
رغم هذا، صبرت سوريا التاريخ والحضارة سنوات وسنوات. وحين توارت النخبة قليلاً تحت سيف القمع الرهيب، لم يجد الشعب بداً من أن يخرج بنفسه إلى الشوارع.
كان يمكن لأولئك وأمثالهم أن يكونوا (الشريك). إذ لم يكن أحدٌ في سوريا بأسرها يتحدث عن (البديل). لكن الفكر السياسي القاصر قتل الفرصة التاريخية الكبرى، مرةً واثنتين وثلاثاً.
سدّ الفكر السياسي المتخلّفُ جميع المداخل، وأغلق كلّ الأبواب والنوافذ، لكنه نسي أن حركة التاريخ لا يمكن أن تتوقف.
انفجرت العبقرية الجماهيرية للشعب السوري وظهرت باهرةً كضوء الشمس من تحت رماد سنين طويلة من الألم والمعاناة.
قرر المارد أن يخرج بنفسه من القمقم. وجدَ أن الوقت قد حان لكي يستلم زمام الأمور، ولكي يطلب حقوقه بصورةٍ تليق بكل المعاني الكبرى الكامنة في حضارته العريقة.
اذهبوا إلى هذا الشعب وابحثوا فيه عن البديل فقد أصبح هناك قبل أي مكانٍ آخر. هناك ستجدون الخزّان البشري الهائل من شبابٍ سوريٍ جديد يوجد فيه ألف بديل وبديل.
افتحوا أبواب السجون والمعتقلات للمناضلين والحقوقيين والنشطاء وأهل الفكر والسياسة والثقافة والكلمة، وستجدون ألف بديل وبديل.
أفسحوا المجال وارفعوا سيف الإرهاب والأمن ليظهر إلى الساحة مئاتٌ من الحكماء والمناضلين الذين لا يصل صوتهم ورأيهم إلى الناس لتشاهدوا كيف يوجد البديل.
ابحثوا عن آلاف المنفيين والمغتربين قسرياً في شواطئ المنافي القريبة والبعيدة لتروا كيف أصبح هؤلاء في أكبر المواقع، وصاروا من أكثر الناس نجاحاً وإنجازاً وعطاءً وإسهاماً في بناء الحضارة الإنسانية، فقط عندما عاشوا أجواء الحرية وتنفسّوا هواءها.
انظروا من حولكم في كل مكان، وأنصتوا إلى نبض الشعب السوري قبل كلماته لتدركوا حقيقة الإجابة على سؤال البديل.
افعلوا أي شيءٍ من هذا. ولكن، إياكم أن تقعوا في فخ الخرافة. إياكم أن تقفزوا فوق دروس التاريخ. إياكم أن تسيئوا قراءة الواقع وأن تُخطئوا في الحسابات..
لم يعد ثمة داعٍ لطرح هذا السؤال بعد الآن. ومن يفعل ذلك لا يُضيّع وقته وجهده فقط، بل إنه يبقى معلقاً في الماضي ويفقد فرصة التواصل مع المستقبل..
قد يقول البعض أن أمير الشعراء أحمد شوقي كان يبالغ عندما قال قبل قرنٍ من الزمان:
لولا دمشقُ لَما كانت طليطلةٌ
ولا زَهَتْ ببني العباس بغدانُ.
لكنّ كلّ من يحترم عقله سيدرك فوراً دلالات تلك المقولة، ويعرف يقيناً أنها لم تأتِ من فراغ.