شيرزاد اليزيدي

تعيش كردستان تركيا لحظات تاريخية بكل معنى الكلمة هذه الايام, حيث الحملات والمعارك الانتخابية على اشدها وسط توقعات ومؤشرات قوية بأن تحصد جبهة العمل الديمقراطي الحر الكردية أغلبية اصوات المناطق والمحافظات الكردية في تركيا في الانتخابات العامة المزمع اجراؤها غداً.
ولعل اطلالة سريعة على اسماء بعض مرشحي الجبهة, كالمناضلة ليلى زانا, تكفي للتيقن من صحة تلك التوقعات ما يعني بالضرورة تراجع حظوظ حزب العدالة والتنمية الحاكم في المناطق الكردية الذي لطالما لعب على وتر الانتماء الاسلامي المشترك بين الاكراد والاتراك لتسويق نفسه, واغداق الوعود الكلامية لانصاف الاكراد في تلك المناطق, لكن حصاد سني حكمه المتعاقبة أثبت للشعب الكردي بما لا يدع مجالا للشك عدم اختلافه الا لفظيا وشعاراتيا عن الاحزاب التقليدية التركية المعروفة بمواقفها المتنكرة من القضية الكردية, وان وعوده ليست سوى وعود انتخابية آنية, ولم تكن بأي حال نتاج رؤية ستراتيجية عقلانية منفتحة ومختلفة عن الرؤية الكمالية السائدة في تركيا حيال الاكراد الذين لطالما شكلوا نفيا موضوعيا ودحضا واقعيا للايديولوجيا الكمالية في تركيا.
فالاكراد هاهم يثبتون في وجه السياسات الانكارية الاقصائية للدولة التركية مجددا خيارهم السلمي المدني وتوجههم النضالي البرلماني والديمقراطي عبر حملتهم الانتخابية المحمومة المثيرة للفخر والاعتزاز والمعبرة عن سوية وعي حقوقي وحضاري عالية, فها هي مدن وبلدات كردستان تركيا من اقصاها, الى اقصاها تتحول الى خلايا نحل انتخابية لتنظيم وتحشيد وتعبئة الطاقات والاصوات الكردية, ولعمري فان هذا الحراك الانتخابي الضاج لا يقل اهمية وفاعلية عن الكفاح المسلح الذي لطالما لجأت اليه الحركة التحررية الكردية مرغمة في وجه سد الابواب السياسية والمدنية أمامها, وأمام شعبها لانتخاب ممثليه والتعبير عن نفسه والمطالبة بحقوقه في اطار دولة ديمقراطية تعددية, فسياسة الانكار والصهر القومي سقطت وان لم تقر أنقرة بذلك رسميا فها هم مثلا مئات الالاف في ديار بكر, عاصمة كردستان تركيا, وخلال تجمع انتخابي يرفعون صور الزعيم الكردي الاسير عبدالله اوجلان في حين ان مجرد إرفاق كلمة السيد باسم اوجلان قبل اعوام قليلة جدا كان يعتبر جريمة يعاقب عليها القانون التركي .
على ان ثمة استحقاقات مصيرية كبرى أمام تركيا بأتراكها واكرادها بعد هذه الانتخابات على رأسها وضع دستور جديد للبلاد, ولاشك ان القضية الكردية ما عاد ممكنا نفيها وتأجيل حلها حلا عادلا ودستوريا بعد الان, فها هم الاكراد يشاركون وببراعة وثقة في اللعبة البرلمانية, وها هم يؤكدون على التعايش والبقاء في اطار الدولة التركية, على ان يتمتعوا بحكم ذاتي حقيقي في مناطقهم وها هي الدولة التركية وليس الحكومة فقط (هذا كان قرار دولة وليس حكومة لمن يعرف طبيعة وخبايا تركيبة النظام السياسي التركي) تحاور وان بتلكؤ ومراوغة السيد (بالاذن من القانون التركي) اوجلان في ايمرالي لكن الرجل الذي بات عنوانا للقضية الكردية في تركيا يؤكد صراحة هذه المرة وبعد نحو عقدين من عروض السلام ووقف اطلاق النار الكردية المتكررة من جانب واحد ان دعوات السلم والحوار هذه لن تستمر بعد الان ما لم تعلن الحكومة عقب هذه الانتخابات استجابتها الصريحة والقاطعة للحوار والاعتراف بالقضية الكردية, وبضرورة حلها خصوصاً وان ممثلي الشعب الكردي ليسوا اشباحا مخفيين, بل ها هم يخوضون غمار المعترك الانتخابي ويحظون بدعم وتفويض شعبهم كي يكونوا صوته تحت قبة البرلمان .
فما لم تبلور تركيا مقاربة مختلفة عن القائمة حاليا للتعاطي مع القضية الكردية, وما لم يتضمن الدستور الجديد المزمع الاعتراف بالشعب الكردي فان للاكراد ولا شك خياراتهم البديلة عن طلب التعايش والتسامح والسلام من دون جدوى او امل طالما ان الدولة تلفظهم وترفض الاقرار بوجودهم وكينونتهم الحقوقية, وتصر على الاستهانة بارادتهم في الحرية والمساواة واختزال حل قضيتهم القومية العادلة في افتتاح قناة تلفزيونية تركية ناطقة باللغة الكردية (trt6) التي تفاخر بها اردوغان في معرض حديثه في احدى الحملات الانتخابية قبل ايام في ديار بكر, فاذا كانت هذه القناة الفاشلة في مهمتها لاستقطاب المشاهد الكردي درة انجازات اردوغان على صعيد حل القضية الكردية التي لا يعترف اصلا بوجودها كما صرح مرارا وتكرارا فان المستقبل لا يبشر بخير, ففي الوقت الذي يطالب فيه الاكراد بتثبيت حقوقهم دستوريا وعمليا وبالشروع في بناء جمهورية ديمقراطية جديدة في تركيا قوامها الشراكة والتكافؤ واللامركزية عبر منح كردستان تركيا حكما ذاتيا موسعا يصر رئيس وزراء تركيا على اعادة انتاج المقاربة الكمالية وتسفيه الحقوق الكردية وتثبيط المسعى الكردي الصادق والجاد الى طي صفحة الحروب والالغاء والانكار وفتح صفحة التكامل والتفاهم والتعايش بين الاتراك والاكراد في بلد جامع .