ياسر الزعاترة

مؤخرا نشرت صحيفة laquo;وول ستريت جورنالraquo; الأميركية تقريرا لمراسلتها laquo;فرناز فصيحيraquo; تقول فيه إن عرافا إيرانيا يسكن في قرية قرب مدينة أصفهان الإيرانية يستقبل باستمرار أفرادا من حكومة الرئيس الإيراني نجاد وأحيانا الرئيس نفسه، ليقدم لهم توقعاته ويقرأ لهم الطالع ويتصل لهم بالجن.
يشتهر العراف باسم laquo;سيد صادقraquo;، ويدعي القدرة على الاتصال بالجن. وهو يستقبل اتصالات من عشرات المسؤولين الإيرانيين (بحسب قوله طبعا)، كما أنه على اتصال مباشر بالرئيس نجاد شخصيا، والتقاه آخر مرة قبل سنتين. لكن الرئيس يسخر من تلك المعلومات، تماما كما يفعل مستشاره laquo;مشائيraquo; الذي يطالب رجال الدين باستخدام قدراتهم الدينية لفك السحر الذي يزعمون أنه صنعه لنجاد من أجل السيطرة عليه!!
ويؤكد صادق أنه لا يضيع طاقته على الاتصال بالجن في أمور ثانوية مثل الحب والمال، بل يوظفها لخدمة الأمن القومي واستقرار النظام السياسي؛ ولذلك فهو يركز على الاتصال بالجن الذي يعمل لحساب المخابرات الإسرائيلية (الموساد) ووكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، كما يتصل أحيانا بالجن الذي يعمل لحساب دول الخليج العربية.
والأسئلة التقليدية التي يسألها laquo;زبائنraquo; صادق كما يزعم هي: ماذا تعلم إسرائيل عن برنامج إيران النووي؟ هل تخطط إسرائيل لمهاجمة إيران؟ ما خطط الولايات المتحدة لشن حرب ناعمة على إيران؟ هل يقوم العرب بتلويث المياه الإيرانية؟ ما خطط الطوارئ التي تهيئها المملكة العربية السعودية لمواجهة ظهور الإمام الثاني عشر المهدي من غيبته لينقذ العالم؟!
المثير في هذه القضية أن شخصية الرئيس الإيراني (رغم نزاهته وتواضعه ولندع سياساته جانبا) تقبل هذا اللون من الشطحات، وعادة ما يظهر هذا الجانب من شخصيته في خطاباته للجمهور، حيث يعلن على الدوام أن يد الإمام المهدي laquo;الغائبraquo; تدير العالم، وأنه سيظهر قريبا ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأن إيران ستكون محور قيادة العالم (بعض أهل السنة يؤمنون بمهدي آخر غير طفل سامراء).
عودة الإمام المهدي تسيطر على عقل السيد نجاد، وهي في واقع الحال العنوان الأبرز لمعتقدات إخواننا الشيعة الاثني عشرية خارج الإجماع الإسلامي، مع التذكير بأن الشيعة الإسماعيلية قد توقفوا عند إسماعيل بن جعفر الصادق الذي مات في حياة والده بعدما كان الإمام السابع بحسب التراتبية المعروفة، فقالوا إنه رفع إلى السماء، بينما واصل الاثنا عشرية (تحت نظرية البداء، أي بدا لله رأي آخر في الولاية) واصلوا المسيرة بتحويل الإمامة إلى شقيقه موسى الكاظم، لكنهم ما لبثوا أن دخلوا في مأزق جديد تمثل في عدم ولادة ابن للإمام الحسن العسكري الحادي عشر، فاخترعوا قصة الغلام الذي اختفى في سرداب في مدينة سامراء، خوفا عليه من العباسيين (هذا ما يراه أحمد الكاتب المفكر الشيعي المعروف).
من حق إخوتنا الشيعة أن يؤمنوا بقصة الإمام كما يرونها: (الأديان والمذاهب نتاج الوراثة أكثر من العقل في معظم الأحيان، مع أن الإسلام في جوهره إعلاء لقيمة العقل)، لكننا نميل إلى تبني الرواية الآنفة الذكر للأستاذ أحمد الكاتب الذي تحدى علماء الشيعة في إثبات ولادة ابن للإمام العسكري، الأمر كان صعبا خارج الإطار الفلسفي القائل بأن الأرض لا تعيش من دون إمام يديرها (يرد معارضوهم بالقول إنها كذلك منذ غيبة الإمام الثاني عشر فيجيبون بأنه موجود ويمارس دوره).
والحق أن شعور الرئيس نجاد بأن الإمام على وشك الظهور يبدو طبيعيا، ذلك أن التبرير الذي أورده علماء الشيعة للغيبة يتعلق بالخوف على الطفل laquo;الإمامraquo; من بطش العباسيين، الأمر الذي لم يعد منطقيا بوجود دولة إيران القوية (يرد الآخرون بأن دولا شيعية عديدة قد ظهرت طوال القرون، وكان بوسعها حمايته، لكنه لم يخرج لأنه لم يولد أصلا).
من الطبيعي والحالة هذه أن يعيد عدم ظهور الإمام الجدل حول مسألة الغيبة ووجوده من الأصل، فإذا كان وجود دولة بقوة إيران لم يفض إلى ظهوره، فمتى يظهر إذن؟! وفي اعتقادي أن رأي أحمد الكاتب هو الذي سيسود في نهاية المطاف.
ما يعنينا في هذه القضية أكثر من أي شيء آخر هو أن التعامل مع المشعوذين ليس حكرا على أحمدي نجاد أو المسؤولين الإيرانيين، إذ ينتشر بين زعماء بلا حصر في الغرب والشرق، وفي إفريقيا بشكل أكبر، ولا تسأل عن انتشاره في أوساط الناس العاديين، ففي دراسة نشرت قبل سنوات تبين أن العرب وحدهم يصرفون حوالي خمسة مليارات دولار على أعمال السحر والشعوذة.
المصيبة أن جوهر ديننا الإسلامي إذا تجاوزنا بعض الآثار الإشكالية لجهة الصحة سندا ومتنا (عند السنة والشيعة) لا يسعف هذه اللعبة، فهذا النبي عليه الصلاة والسلام يعلن صراحة كما في النص القرآني الصريح أنه لا يعلم الغيب laquo;وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَraquo;، وأنه laquo;لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُraquo;، وأن الجن عالم آخر لا صلة له بالإنس خارج سياق الوسوسة (بالنسبة للشياطين)، laquo;إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْraquo;، laquo;وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍraquo;.
وفيما يشتغل سيد صادق على قضايا الأمن القومي!! فإن مشعوذينا عندما يعجزون عن فعل شيء يميلون إلى القول إن الجن المعادي laquo;يهوديraquo;، أو أنهم (أي الأعداء) طائفة من الجن اليهود.
المهم أننا إزاء سوق رائجة تشغل -بحسب الدراسة المشار إليها- أكثر من ربع مليون مشعوذ في العالم العربي وحده، أما الزبائن فهم بعشرات الملايين ممن لا يريدون الاعتراف بأمراضهم النفسية التي يبتلى بها البشر، تماما كما يبتلون بالأمراض العضوية، وقد تحل مشكلتهم عند الطبيب، وقد يبقون بل علاج، أو يحتاجون إلى علاج دائم.
موضوع شائك، لكنه مسل على أية حال، ونرجو أن لا نكون قد أثقلنا على القارئ العزيز، أو laquo;خربناraquo; بعض الشيء على أصحابنا المشعوذين!! مع أن عملهم سيستمر على الأرجح لأن قلة هم من يستمعون إلى خطاب العقل في قضايا من هذا النوع، مع الأسف الشديد بالطبع.