سليمان تقي الدين

ينصب جهد الحكومة اللبنانية الجديدة على صياغة بيان وزاري مختصر يستبعد تظهير العناوين الخلافية الكبرى عن طريق التحسينات اللغوية . هذا هو المخرج الوحيد الممكن لحال الانقسام اللبناني المعلّقة قضاياه على التطورات الإقليمية . فلا تعالج مشكلة السلاح كما يشتهي البعض جذرياً إلاّ في إطار حل شامل لنزاعات المنطقة، ولا تعالج قضية المحكمة الدولية إلا بمصالحة عربية باتت بعيدة المنال في المدى المنظور بعد الانشقاق الكبير في العلاقات السورية - السعودية .

رفع رئيس الحكومة شعار ldquo;كلنا للعملrdquo;، وفي تقديره أن الأولويات هي لمعالجة الشأن الاقتصادي والمالي والخدماتي . لم يركز على فكرة الإصلاح ولا المحاسبة التي يريدها أحد أقوى شركائه في الحكومة . ولكي يتجنب الالتزام بأي برنامج فعلي ركّز على الاختصار في البيان الوزاري بينما المطلوب هو تحديد واضح لمبادرات الحكومة في مسائل حيوية كقانون الانتخاب وإصلاح القضاء والإدارة ومراجعة السياسات المالية وتطوير مؤسسات الرقابة، لكن هذه العناوين لا تتفق مع حال الانقسام السياسي الواسع والعميق، لأنها تظهر في مظهر الاستيلاء على السلطة والذهاب بها من قبل فريق لبناني خارج مشاركة الآخرين، فرئيس الحكومة مطوق بالكثير من الضغوط منذ اللحظة الأولى لتكليفه عندما أصدر المجلس الإسلامي الأعلى بيان الثوابت ورسم حدود السياسات، كما في حالات الاعتراض التي حصلت في الشارع على ما جرى وصفه بالاستيلاء على تمثيل فريق من اللبنانيين بعيداً عن المعادلة النيابية . غير أن الأهم من ذلك أن محاولة نقل الزعامة الحكومية إلى طرابلس عاصمة شمال لبنان بهذا الشكل التمثيلي العددي غير المسبوق يواجه تحديات أمنية طرابلسية متزايدة، ليس من امتداد الوضع الداخلي والصراعات اللبنانية فقط، بل في امتداد الأزمة السورية وتأثيراتها المباشرة في منطقة الشمال بحكم نسيجها الاجتماعي المشترك مع الجار السوري وتداخل الحدود والعلاقات اليومية .

هكذا تحرك وفد مهم ومؤثر من طرابلس باتجاه ما سماه إيجاد قيادة طرابلسية من جميع الأطراف لمعالجة مشكلة السلاح، ودعا إلى نزع السلاح الشامل من طرابلس تمهيداً لنزعه من كل لبنان، من الشمال إلى الجنوب . وكان سبق أن طرح هذا الشعار حول بيروت مدينةً منزوعة السلاح .

يبدو هذا الشعار مثالياً غير واقعي، لأن الدولة لا تملك القدرة والأدوات، لذلك، ولأن مسألة بهذه الأهمية تحتاج إلى توافقات وطنية . لكن الذين يطرحون هذا الشعار يريدون الوصول إلى مطلب حصر سلطة السلاح بالدولة وهذا مطلب مشروع . أما كيف يمكن الوصول إلى ذلك، فلن يكون الأمر متاحاً بغير بناء الدولة القوية التي تستطيع أن تقوم بجميع مهامها، ولا سيما الدفاع عن أمنها وحدودها، أو أن تقوم بصفقة سياسية شاملة تؤدي فعلاً إلى حيادها في النزاعات الإقليمية . ربما أن الطرف الذي يعيد طرح الشعار القديم الجديد عن نزع السلاح هو أقرب لفكرة هذا الحياد وهذا الانسحاب من المواجهة مع الكيان الصهيوني، لأنه لم يقدّم أي مشروع فعلي في اتجاه تعزيز دور الدولة وفاعليتها .

صحيح أن الحكومة الجديدة فيها أرجحية للقوى التي تدعم مشروع المقاومة وحماية سلاحها، وأن هذه القوى تملك على الأرض القوة المادية، لكن الطرف الآخر يواجه بمطالب شعبية أيضاً، وهي الحاجة إلى الاستقرار وعدم حصول توترات أمنية كلما احتدم النقاش السياسي . في أي حال ليست الحكومة من سيحسم كل هذه الخيارات مهما حاولت ذلك ما لم يعد الحوار الوطني لمعالجة الملفات الخلافية أو لم تحسم تطورات المنطقة في اتجاه أو آخر .

حتى هذه اللحظة يبدو الوضع الإقليمي أسير مخاطر كبيرة، والمسار السوري الخاص لا يوحي بإمكان عودة الاستقرار قريباً وإيجاد حلول سياسية لوضع معقد طرأت عليه كل هذه المداخلات الدولية . في وضع كهذا كانت الحاجة أكبر إلى حكومة جامعة وليس إلى حكومة مصنفة في جانب واحد من قوى الصراع في الوقت الذي يصعب اعتبارها عملياً كذلك . فهناك جزء من مكونات الحكومة ليس ملتحقاً بمشروع القوة الرئيسية الممثلة فيها، فإذا كان هناك من إنجازات لهذه الحكومة يمكن أن تقوم بها في هذا الوقت الاقليمي الضائع، فهو إقرار بعض الإصلاحات لتقوية المؤسسات واستيعاب بعض المشكلات الاجتماعية والخدماتية واستعادة الثقة التدريجية بالأمن الشرعي . لا نستطيع أن نطمح اليوم إلى أكثر من ذلك .