جيفري د. ساكس


إن خروج بان كي مون من بيئته الفقيرة إلى الزعامة العالمية يوازي المسار الذي سلكته بلاده، وهي قصة التزام وسخاء وكرم نالت ثقة العالم، وقد يكون بوسعها أن تساعد في إرشاد العالم في وقت تحيط به مخاطر غير مسبوقة وفرص فريدة.
إن العالم سوف يتمكن من التنفس بسهولة أكبر مع إعادة انتخاب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لولاية جديدة في منصبه هذا الشهر، ففي عالم عنيد متمرد تصبح الوحدة العالمية على قدر عظيم من الأهمية، وعلى مدى الأعوام الخمسة الماضية نجح بان كي مون في تجسيد هذه الوحدة، سواء من خلال دبلوماسيته الشخصية الفريدة أو الدور الذي لعبه كرئيس لهذه المنظمة العالمية التي لا غنى عنها.
إن الفوز بولاية ثانية لقيادة الأمم المتحدة ليس بالأمر البسيط، فبوصفه رئيساً لمنظمة تتألف من 192 بلدا عضوا، يشعر الأمين العام حتماً بالتيارات المتعارضة القوية من الانقسامات العالمية. وفيما يتصل بأي قضية تقريبا، فمن المرجح أن يجد الأمين العام نفسه بين مجموعات متنافسة من البلدان، وعلى الرغم من ذلك أوحى بان كي مون بالثقة العالمية في زعامته إلى حد نجاحه في تأمين فترة ولاية ثانية بالإجماع.
والواقع أن الإجماع لمصلحة إعادة انتخاب بان كي مون يصبح أكثر بروزاً وتأثيراً لأنه يتضمن الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والصين، وفرنسا، وروسيا، وتدين هذه البلدان الخمسة بمكانتها البارزة في الأمم المتحدة للتسوية التي تم التوصل إليها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، بعد خروج تحالفها من الحرب منتصرا. وبموجب ميثاق الأمم المتحدة فإن البلدان الخمسة لابد أن تصادق على انتخاب كل أمين عام، ولقد حصل بان كي مون على الدعم القوي من جانب كل الأعضاء الخمسة الدائمين.
ويشرفني شخصياً أن أخدم في هذه المنظمة بوصفي المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون الأهداف الإنمائية للألفية. وبهذه الصفة، يصبح بوسعي أن أرى الأمين العام يعمل في مختلف أنحاء العالم، وإنها لتجربة مجزية، فهي تمنحني أملاً عظيماً في إحراز النجاح في حل المشاكل العالمية، مثل الفقر والتهديدات البيئية والصراعات العنيفة.
إن مشاكل العالم العديدة تشق طريقها إلى مكتب الأمين العام ليلاً ونهارا، وسواء كانت القضايا تتعلق بالحرب والسلام؛ أو الثورات والانقلابات؛ أو الكوارث الطبيعية: أو الأوبئة؛ أو الانتخابات المتنازع عليها؛ أو التحديات الطاحنة المتمثلة بالجوع والفقر وتغير المناخ والهجرة الجماعية، فإن مثل هذه الأزمات تسترعي حتماً اهتمام الأمين العام، وإنها لأعباء تنوء بها الجبال، وتتطلب الالتزام الكامل على مدار الساعة من جانب الأمين العام وفريقه.
أثناء زيارة قمت بها أخيراً مع بان كي مون إلى مصر وتونس، راقبته برهبة وهو يؤيد بشكل حاذق التغيرات الديمقراطية الجارية في هذين البلدين في حين يتعامل في الوقت نفسه مع العديد من الاضطرابات الأخرى في المنطقة، ولقد عرض بان كي مون بسخاء وعلى نحو ملهم دعمه وتأييده لقادة الشباب الشجعان في البلدين، والذين كانوا في طليعة التغيرات السياسية التي بدأت هناك هذا العام.
منذ أيامه الأولى في المنصب، أكَّد بان كي مون حقيقة مفادها أن أغلب التحديات العظمى التي تواجه العالم تتلخص في حقيقة واحدة صارخة: ألا وهي أن العالم تحول الآن إلى مجتمع عالمي مزدحم ومترابط، حيث يناضل سبعة مليارات من البشر من أجل العثور على موطئ قدم لهم على كوكب معرض للخطر إلى حد كبير. وفي عصرنا هذا أصبحت التحديات المتمثلة بإطعام العالم، وحمايته من الأمراض الوبائية مثل الملاريا والإيدز، والجمع بين التقدم الاقتصادي والسلامة البيئية المحلية والعالمية، هي التحديات التي سوف يتحدد على ضوء قدرتنا على التعامل معها هيئة العالم. والواقع أن الحروب وأعمال العنف تنشأ غالباً بفعل الجوع، والفقر، والتدهور البيئي مثل التغير المناخي الناتج عن أنشطة بشرية.
نحن باختصار في عصر عالمي جديد، ولعلنا نستطيع أن نعرفه بعصر التنمية المستدامة، حيث يعتمد أمننا، بل ربما قدرتنا على البقاء، على نجاح العالم في صياغة التزام ثلاثي: القضاء على الفقر المدقع؛ وضمان حقوق الإنسان لكل البشر؛ وحماية البيئة الطبيعية من الأزمات المرتبطة بتغير المناخ وتدمير التنوع البيولوجي ونضوب الاحتياطيات من المياه العذبة وغير ذلك من الموارد الحيوية، ولقد أكد بان كي مون بلا كلل أو ملل الحاجة إلى وضع التنمية المستدامة في صلب تفكيرنا.
سوف تهيمن التحديات المتمثلة بالفقر واستنزاف الموارد وتغير المناخ وحقوق الإنسان على ولاية بان كي مون الثانية وعلى عمل هؤلاء الذين سوف يخلفونه في منصبه كأمين عام للأمم المتحدة.
ففي عام 2012 سوف تجتمع حكومات العالم من جديد في ريو دي جانيرو، بعد عشرين عاماً من المؤتمر التاريخي الذي وقعوا في إطاره على أول معاهدة شاملة لمكافحة التغير المناخي الناتج عن أنشطة بشرية. بيد أن العالم لم يشهد سوى أقل القليل من الإنجاز منذ ذلك الوقت، والآن يعمل بان كي مون من وراء الكواليس بلا هوادة من أجل الخروج من عنق الزجاجة وتجنب الكارثة المناخية.
في بداية الألفية الثالثة، جمع كوفي عنان، سلف بان كي مون، زعماء العالم في لقاء تاريخي لتبني الأهداف الإنمائية للألفية، والتي أرست أهدافاً طموحة يتعين تحقيقها في الكفاح ضد الفقر والجوع والمرض بحلول عام 2015، وكان بان كي مون نصيراً لا يكل ولا يمل للأهداف الإنمائية للألفية، كما بدأ العديد من الحملات الخلاقة لتوسيع الالتزام بهذه الأهداف على مستوى العالم.
في العام الماضي، على سبيل المثال، أطلق بان كي مون مبادرة عالمية جديدة جريئة، تحت مسمى ldquo;كل أم وكل طفلrdquo;، لتحسين الرعاية الصحية المقدمة للنساء والأطفال. كما ناصر الكفاح ضد أمراض الإيدز، والسل، والملاريا، ونجح في استمالة العديد من زعماء العالم والشخصيات العامة العالمية لمناصرة القضية. وتحت زعامة بان كي مون يتم إحراز قدر عظيم من التقدم، ولكن كما أكد بان كي مون فإن الأمر يتطلب إحراز المزيد من التقدم وبوتيرة أسرع، وفي عام 2015 سوف يساعد الأمين العام في توجيه العالم نحو التزامات أكثر جرأة في الكفاح من أجل القضاء على الفقر المدقع والحرمان في العقدين القادمين.
هناك قدر عظيم من الارتياح في قصة بان كي مون الشخصية، فهي القصة التي تعطي الأمل للجميع، فعندما يسافر بان كي مون إلى المناطق الفقيرة في إفريقيا، يحرص على الاختلاط بالقرويين فيحكي لهم عن نشأته الأولى في ظل الفقر والحرمان في كوريا في خمسينيات القرن العشرين، وكيف نجحت كوريا الجنوبية، من خلال الالتزام بالعمل الجاد والتعليم والعلوم الحديثة والقيم المشتركة، في التحول إلى واحدة من أغنى دول العالم وأكثرها نجاحا.
إن خروج بان كي مون من بيئته الفقيرة إلى الزعامة العالمية يوازي المسار الذي سلكته بلاده، وهي قصة التزام وسخاء وكرم نالت ثقة العالم، وقد يكون بوسعها أن تساعد في إرشاد العالم في وقت تحيط به مخاطر غير مسبوقة وفرص فريدة.


* أستاذ الاقتصاد ومدير معهد الأرض في جامعة كولومبيا، والمستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة
لشؤون الأهداف
الإنمائية للألفية.
laquo;بروجيكت سنديكيتraquo;