نوري حمزة

كنت أبحث عن كتاب تاريخ الحضارات للمؤرخ الفرنسي‮ ‬الشهير‮ ‬غوستاف لوبون في‮ ‬سوق الكتب بشارع‮ ''‬انقلاب‮'' ‬بالعاصمة الإيرانية طهران،‮ ‬حيث دخلت دار نشر كبيرة فاستقبلني‮ ‬حينها شاب بابتسامة ترحيب‮.‬ بدأنا الاثنان بالسلام والرد وأخذت أسأل عن الكتاب ذاته وسألته عن كتاب تاريخ العرب وحضارتهم‮.‬ تغيّر حينها ذلك الوجه المبتسم واتضحت تجاعيد الغضب عليه وتحول من مبتسم و مرحب إلى عبوس نافر،‮ ‬ورد علي‮ ‬رداً‮ ‬قاسياً‮ ‬وبأسلوب‮ ‬غير لائق قائلاً‮: ‬هل للعرب حضارة أو تاريخ‮ !‬؟ مضيفاً‮ ‬لا‮ ‬يوجد لدينا أي‮ ‬كتاب‮!‬ خرجت حينها حاملاً‮ ‬همومي‮ ‬على كتفي،‮ ‬حيث لم تسمح لي‮ ‬بالخلود إلى النوم في‮ ‬تلك الليلة الشتوية الطويلة وبدأت أتمشى في‮ ‬شقتي‮ ‬الصغيرة المشرفة على ساحة أرجنتين الواقعة شمال طهران،‮ ‬ووقفت أمام النافذة كي‮ ‬أرى هطول الثلج وأترنم بأغنية للفنان الأحوازي‮ ‬سيد جواد‮: '' ‬نِص الليل والناس بحلاة النوم وأنا الياويل أتقلب وأعد نجوم‮...''. ‬إلا أن حالي‮ ‬ليست حال عاشق سهران ويعد النجوم منتظراً‮ ‬وصول اللحظة الموعودة لرؤية الحبيب‮ ‬يوم‮ ‬غد‮.‬ ورغم معرفتي‮ ‬وإلمامي‮ ‬بمنظومة الفكر الفارسي‮ ‬المعادي‮ ‬للعرب إلا أني‮ ‬كنت‮ ‬غارقاً‮ ‬في‮ ‬التفكير بما حدث لي‮ ‬تارة واللجوء إلى الغناء تارة أخرى لترويض نفسي‮.‬ الأمر الذي‮ ‬أثار استغرابي‮ ‬أن تحدث كذا أمور في‮ ‬بلد‮ ‬ينادي‮ ‬بالتعايش السلمي‮ ‬بين المسلمين،‮ ‬بل بين جميع أبناء المعمورة وينظر زعماؤه لحوار الحضارات‮! ‬متسائلا لِمَ‮ ‬كل هذه النظرة المتعالية وهذا المخزون الهائل من معاداة كل ما هو عربي‮ ‬في‮ ‬بلد إسلامي‮ ‬الوجه والعنوان؟ بدأت البحث عن إجابة لما اختلج ببالي‮ ‬لأجد جواباً‮ ‬شافياً‮ ‬على تلك الأسئلة وتفسيراً‮ ‬مقنعاً‮ ‬لتناقضات الشخصية الفارسية،‮ ‬والحصيلة أكتبها اليوم طبقاً‮ ‬لمقولة‮ ''‬لكل حادث حديث‮''. ‬و المقصود هنا إشعال الفتنة الطائفية بالبحرين على‮ ‬يد الفقيه المرشد للنظام الإيراني‮ ‬كما هو الحال في‮ ‬العراق واليمن،‮ ‬و نار هذه الفتنة ستصل عاجلاً‮ ‬أم آجلاً‮ ‬سائر البلدان العربية‮.‬ من المعروف أن نظرية ولاية الفقيه ولدت قبل‮ ‬150‮ ‬عاماً‮ ‬بواسطة الملا أحمد النراقي‮ (‬توفي‮ ‬سنة‮ ‬1245هجرية‮) ‬صاحب كتاب‮ (‬عوائد الأيام‮)‬،‮ ‬وطبقها الخميني‮ ‬لأول مرة عند تأسيسه نظام‮ (‬جمهورية إيران الإسلامية‮). ‬ تأسست‮ (‬المرجعية الدينية‮) ‬للفقهاء طبقا لنظرية‮ (‬النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي‮ ‬المنتظر‮)‬،‮ ‬وكسبت مشروعيتها منها،‮ ‬ثم صارت تتبلور وتتطور منذ أواسط القرن الخامس للهجرة،‮ ‬حتى اكتملت على‮ ‬يد الشيخ علي‮ ‬بن عبدالعالي‮ ‬الكركي‮ ‬في‮ ‬القرن العاشر للهجرة،‮ ‬عندما قام بمنح الشاه طهماسب بن اسماعيل الصفوي‮ ‬إجازة الحكم باسمه باعتباره نائباً‮ ‬عاماً‮ ‬للإمام المهدي‮.‬ وقد أثارت نظرية‮ (‬النيابة العامة‮) ‬عند ظهورها جدلاً‮ ‬واسعاً‮ ‬في‮ ‬صفوف الشيعة في‮ ‬القرون الوسطى وقسمتهم إلى‮ (‬أصوليين‮) ‬و(إخباريين‮) ‬مثلما فعلت نظرية‮ (‬ولاية الفقيه‮) ‬التي‮ ‬أثارت معارضة شديدة من قبل كبار الفقهاء والمحققين كالشيخ مرتضى الأنصاري‮ (‬توفي‮ ‬سنة‮ ‬1281‮) ‬والسيد أبو القاسم الخوئي‮ (‬توفي‮ ‬سنة‮ ‬1412‮)‬،‮ ‬حيث قال الأول في‮ ‬كتابه‮ (‬المكاسب‮): ''‬إن الروايات التي‮ ‬يستشهد بها المريدون لولاية الفقيه لا تبين إلاَّ‮ ‬وظيفتهم من حيث الأحكام الشرعية والقضاء،‮ ‬لا كونهم كالأنبياء والأئمة في‮ ‬كونهم أولى بالمؤمنين من أنفسهم،‮ ‬وإن الدليل على وجوب طاعة الفقهاء دونه‮ (‬خرط القتاد‮)''.‬ أما أبوالقاسم الخوئي،‮ ‬فقد قال في‮ ‬كتاب‮ (‬الاجتهاد والتقليد‮): '' ‬إن ما استدل به على الولاية المطلقة‮ ‬غير قابل للاعتماد عليه،‮ ‬ومن هنا قلنا بعدم ثبوت الولاية له إلاَّ‮ ‬في‮ ‬مورد الفتوى والقضاء،‮ ‬وإن الأخبار المستدل بها على الولاية المطلقة قاصرة السند والدلالة‮''.‬ ولا‮ ‬يشك أحد في‮ ‬ضعف الروايات التي‮ ‬يستند إليها القائلون بنظرية ولاية الفقيه،‮ ‬والمنسوبة إلى الإمام المهدي،‮ ‬وهم‮ ‬يعترفون بذلك،‮ ‬ولكنهم‮ ‬يتشبثون بها كأدلة مساعدة بعد تقريرهم لضرورة إقامة الحكومة الإسلامية في‮ (‬عصر الغيبة‮) ‬والتخلي‮ ‬عن نظرية التقية وانتظار الإمام الغائب‮.‬ وقد شكل القول بنظرية ولاية الفقيه ثورة في‮ ‬الفكر السياسي‮ ‬الشيعي‮ ‬لأنه أدى بالفقهاء إلى التخلي‮ ‬عن شروط العصمة والنص والسلالة العلوية الحسينية التي‮ ‬كان‮ ‬يشترطها الشيعة في‮ ‬الإمام في‮ ‬القرون الأولى‮.‬ وبالرغم من الجدل العنيف الذي‮ ‬كان‮ ‬يدور حول هذه النظرية منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية في‮ ‬سنة‮ ‬1979‮ ‬وقبلها،‮ ‬ولكنها كانت ولاتزال‮ ‬غامضة،‮ ‬خاصة فيما‮ ‬يتعلق بحدود الولاية وعلاقة الفقيه بالأمة‮. ‬وقد أصبحت عرضة لجدل طويل في‮ ‬مجلس الخبراء التأسيسي‮ ‬الأول الذي‮ ‬انعقد بعد انتصار الثورة لصياغة الدستور الإيراني،‮ ‬حيث كان‮ ‬يميل البعض إلى تقليص سلطة الفقيه إلى درجة الاقتصار على مهمة الإرشاد الروحي،‮ ‬ويميل البعض الآخر إلى تمديد سلطته إلى درجة الهيمنة الكاملة على الحياة السياسية‮. ‬ إلا أنه رغم سيادة هذه النظرية في‮ ‬إيران فإنها جوبهت و لاتزال بمعارضة من قبل بعض الفقهاء والمحققين الكبار الذين‮ ‬يرفضون الصفة الدينية المقدسة للحاكم،‮ ‬حتى إن كان فقيهاً‮ ‬عادلاً،‮ ‬وذلك لاحتمال تعرضه للجهل أو الهوى أو حب السلطة والانحراف والاستبداد‮.‬ ومن هنا فإن الفقهاء‮ ‬يناقشون صحة نظرية ولاية الفقيه أو النيابة العامة،‮ ‬ويقولون إنها ليست سوى فرضيات أو نظريات اجتهادية حادثة لم تكن معروفة بين الفقهاء السابقين ولا تحظى بإجماع الشيعة أو عامة المسلمين‮.‬ إن إعادة النظر في‮ (‬ولاية الفقيه‮) ‬لا تعني‮ ‬إعادة النظر في‮ ‬الإسلام أوالحكم الإسلامي،‮ ‬وإنما تعني‮ ‬إعادة النظر في‮ ‬أسس الحكومة وهل تقوم على تفويض إلهي‮ ‬للحكم باسم الإمام الغائب أو تفويض من الأمة للحكم باسمها بالحدود والصلاحيات التي‮ ‬ترسمها وتحددها‮.‬ لو كانت النظرية من مسلمات فقه الشيعة لقال بها أوائلهم وعملوا بها أو حتى أشاروا إليها بالاسم والرسم،‮ ‬فضلاً‮ ‬عن التناقضات في‮ ‬كلام خامنئي‮ ‬أن الإمام(الخميني‮) ‬استطاع أن‮ ‬يجعلها أمراً‮ ‬مقبولاً،‮ ‬فلماذا بعد عقود من الثورة‮ ‬يأتي‮ ‬راعي‮ ‬النظرية آية الله حسين علي‮ ‬منتظري‮ ‬ليردها؟ هذا فضلاً‮ ‬عن الكذب الواضح في‮ ‬كلام خامنئي‮! ‬لأن بعدما بدأ الخميني‮ ‬يدرس ولاية الفقيه كان أبوالقاسم الخوئي‮ ‬في‮ ‬النجف‮ ‬يدرس نقد ولاية الفقيه‮.‬ عدد كبير من كبار مراجع الشيعة في‮ ‬عصر الخميني‮ ‬ويمكن أن نذكر‮ (‬الخوئي،‮ ‬خونساري،‮ ‬شريعة مداري،‮ ‬كلبايكاني،‮ ‬مرعشي،‮ ‬قمي،‮ ‬شيرازي‮) ‬لم‮ ‬يقبل أي‮ ‬منهم بنظرية ولاية الفقيه وهؤلاء من كبار الطائفة الشيعية الكريمة في‮ ‬العصر الحاضر،‮ ‬وهذا إن دل على شيء فهو‮ ‬يدل على عقم النظرية‮.‬ سأل أبو الحسن بني‮ ‬صدر أول رئيس جمهورية في‮ ‬إيران بعد انتصار الثورة الخميني‮ ''‬هل أنتم تريدون من الإيرانيين الثورة على الشاه ليخلفه في‮ ‬مكانه رجل فقيه،‮ ‬وهذا الفقيه لم‮ ‬يستطع أن‮ ‬ينظم أمور النجف مركز الشيعة طيلة ألف عام؟‮'' ‬ فأجابه الخميني‮: ‬بأني‮ ‬طرقت أبواب النظرية كي‮ ‬تقوم أنت ومرتضى مُطهري‮ ‬بإتمامها،‮ ‬وهذا دليل آخر على عدم فهم المثقفين من الشيعة للمخططات الطائفية،‮ ‬وأعلن بني‮ ‬صدر أسفه على هذا علناً‮ ‬في‮ ‬كتابه(الخيانة للأمل‮) ‬بالفارسية وكشف عن أسرار الخميني‮ ‬التي‮ ‬كانت‮ ‬غائبة عن الإعلام الدولي‮ ‬كلياً‮.‬ أما الخميني‮ ‬فقد كان‮ ‬يعلن أمام العالم أثناء وجوده في‮ ‬باريس‮ ''‬أن الولاية لجمهور الشعب‮''‬،‮ ‬كما كان‮ ‬يلقنه بني‮ ‬صدر،‮ ‬ومسودة الدستور الإيراني‮ ‬كتبت على أساس أن الولاية لجمهور الشعب،‮ ‬وأكدها مراجع الشيعة،‮ ‬ومنهم الخميني‮ ‬نفسه‮. ‬وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه التي‮ ‬استحلوا بها دماء الشعب وأمواله وجعلوه كاليتيم القاصر،‮ ‬فلماذا قال الخميني‮ ‬أمام العالم قاطبة‮: ‬إن الولاية لجمهور الشعب؟‮ ‬ هنا لا نلوم آية الله أردبيلي‮ ‬المدعي‮ ‬العام الأسبق عندما قال لجمع من علماء السنة حينها إننا كنا ضعفاء في‮ ‬وقت كتابة الدستور وعملنا بالتقية ولسنا مضطرين الآن أن نعامل المواطنين السنة كما‮ ‬ينص الدستور‮!‬ هكذا نرى أن ما تمارسه الدولة الفارسية وهي‮ ‬تمتطي‮ ‬صهوة ولاية الفقيه العقيمة ما هو إلا تقية وتجسيداً‮ ‬لها على أرض الواقع بغية استغلالها ضد الجوار العربي‮ ‬عبر دغدغة مشاعر البعض وإشعال الفتن الطائفية وإثارة الاضطرابات‮. ‬ يعتقد بعض الخبراء أن نظرية ولاية الفقيه هي‮ ‬امتداد لنظرية ولاية الفلاسفة و نشأت هذه النظرية في‮ ‬عهد اليونان القديم قبل الإسلام حيث إنهزم جيش الإغريق في‮ ‬بعض جبهات الحرب وحينها توافد المفكرون الإغريق إلى أثينا منتقدين الهزيمة العسكرية وإدارة البلد على‮ ‬يد الجنرالات،‮ ‬مطالبين بوضع حد لتدخل الضباط في‮ ‬الشؤون السياسية للإمبراطورية‮. ‬ومنذ ذلك الوقت شرع فلاسفة الإغريق في‮ ‬التنظير لإدارة البلد دون تدخل العسكر وتحميل حروب مستمرة تسيء إلى شؤون الدولة ومؤسساتها وتضر بالجغرافيا القومية‮.‬ بعد نهاية تلك الحقبة التاريخية ومستجداتها الحديثة،‮ ‬وأهمها ظهور الإسلام في‮ ‬الجزيرة العربية والقضاء التام على الإمبراطورية الفارسية،‮ ‬ثم وصول الإسلام إلى تخوم أوروبا،‮ ‬أصبحت هذه النظرية بالية‮.‬ وفي‮ ‬قرون متأخرة استخرجها الملا أحمد نراقي‮ ‬وعدد من الملالي‮ ‬الذين‮ ‬يحيطون به آنذاك،‮ ‬ومن ثم دمجها في‮ ‬الإسلام الشيعي‮ ‬للحفاظ على الهوية الفارسية للدولة،‮ ‬كما طبقها بشكل بدائي‮ ‬من قبل جميع ملوك السلالة الصفوية عبر ضرب الرقاب و إرغام الإيرانيين على التشيع في‮ ‬القرن الـ16‮ ‬للميلاد،‮ ‬فجاءت للحفاظ على القومية الفارسية‮.‬ حيث نشاهد أن السياسيين الفرس طيلة التاريخ عملوا كل ما في‮ ‬وسعهم للحفاظ على الجغرافيا السياسية أولاً‮ ‬والتوسع القومي‮ ‬ثانياً‮ ‬حتى إن كان هذا التوسع عبر استغلال الدين أو أي‮ ‬وسيلة أخرى،‮ ‬وذلك لتفريس الأرض والإنسان في‮ ‬أي‮ ‬مكان من العالم‮. ‬ونرى اليوم أن ولاية الفقيه أصبحت نافذة التفريس ووسيلة لدغدغة مشاعر البعض من أبناء الطائفة الشيعية العرب والضحك على الذقون لتمرير مشاريع تخدم مصالح إيران فقط‮.‬ صحافي‮ ‬من الأحواز