محمد كريشان

ما يحصل في تونس هذه الأيام من بعض أجهزة الأمن عجيب غريب... وصل حد التهديد بسحب الحماية الشخصية لأعضاء الحكومة المؤقتة ورئيسها وحماية بعض المقرات الرسمية.
بعض المدن التونسية الرئيسية مثل صفاقس وقابس شهدت أيضا إضرابا مفتوحا لأعوان الأمن فأقفلت مراكز الشرطة وغاب رجالها بالكامل مع أن مدنا أخرى مثل سوسة اكتفى فيها الأعوان بحمل الشارات الحمراء المعبرة عن غضبهم مع التحذير من تصعيد احتجاجاتهم.
الهدف من وراء هذه التحركات أعجب وأغرب... المحتجون يطالبون ببساطة بإطلاق سراح زملائهم الموقوفين بتهمة قتل المتظاهرين خلال الثورة التي أطاحت بالرئيس بن علي.
يقولون إن هذه 'الإيقافات العشوائية' تجعلهم 'كبش فداء' يدفعون ثمن أوامر أعطيت لهم ولهذا يريدون محاسبة 'الرؤوس الكبار'. في أقصى الأحوال هم لا يرون امكانية لمحاسبتهم هم شخصيا إلا بعد الانتخابات العامة التي توصل إلى الحكم حكومة شرعية يجوز لها القيام بذلك. لم يكتفوا بكل ما سبق بل وصل الأمر ببعضهم إلى حد دعوة زملاء لهم يشرفون على مراكز امتحانات في مدارس لترك نوبات حراستهم والالتحاق بإضرابهم وهو ما كان لهم فعلا في بعض الحالات ما استدعى اللجوء إلى الجيش لسد هذا الشغور.
الأدهى والأمر أن هؤلاء الأعوان الذين خرجوا في مظاهرات ودخلوا في إضرابات لم يطالبوا مثلا في كل تحركاتهم الاحتجاجية بإطلاق سراح زميل لهم من نوع آخر. هو محافظ شرطة يدعى سمير الفرياني كان اعتقل لمطالبته بإصلاح وزارة الداخلية وإبعاد رموز الفساد والتعذيب فيها والتنديد بما قال إنه إتلاف لجزء من أرشيف هذه الوزارة لطمس وقائع ومراحل لا يراد لأحد أن يطلع عليها. هذا المحافظ تظاهر تأييدا له وتنديدا باعتقاله أناس آخرون غير زملائه.
ربما ما كان بالإمكان لرجال الأمن المحتجين أن يقوموا بما قاموا به لولا وجود غطاء قانوني لهم غير مسبوق لا في تونس ولا في البلاد العربية: 'النقابة الوطنية الموحدة لقوات الأمن الداخلي' التي تأسست في السابع من تموز/ يوليو الحالي من أجل 'الدفاع عن حقوق ضباط وأعوان الأمن في إطار احترام القانون والحرص على ضمان أمن البلاد وخدمة المصلحة العامة' كما جاء عند إعلان الخبر. ربما هم يسعون الآن فعلا للدفاع عن 'حقوق' بعضهم ممن قتلوا المتظاهرين السلميين في الشوارع لكن الأكيد أن لا علاقة لهم البتة لا بضمان أمن البلاد ولا بخدمة المصلحة العامة.
لا شك بأن جهاز الأمن الداخلي والبوليس السياسي، الذي طالما شكل عصا بن علي التي يهش بها على شعبه ويهوي بها على رؤوسهم أحيانا، تعرض إلى حملة شرسة بعد هروب معلمه في الرابع عشر من كانون الثاني/ يناير وقد يكون بعض العناصر النزيهة فيه قد شعرت فعلا ببعض الظلم أو التشويه لكن ما جرى مؤخرا لا يمكن إلا أن يزيد الهوة بين الشعب وهذا الجهاز. المعضلة الآن أن هذا يحدث وتونس في أشد الحاجة لاستعادة أمنها حتى تعود عجلة الحياة الاجتماعية والاقتصادية للعمل ويشرع في بناء الدولة الديمقراطية الجديدة. الناس باتوا قلقين للغاية من غياب الأمن الشرط الذي لا غنى عنه لتسير عملية البناء هذه مع كل استحقاقاتها الكبرى وأهمها انتخابات في تشرين الأول/اكتوبر المقبل لانتخاب مجلس تأسيسي.
يحدث هذا أيضا والجيش لا يمكنه أن يعوض البوليس في كل كبيرة وصغيرة خاصة وقد ازدادت الأعباء الأمنية بوجود مجرمي حق عام هاربين وأنصار الحزب الحاكم المنحل المرعوبين من المحاسبة وضياع الامتيازات فضلا عن تدفق مئات الآلاف من اللاجئين الليبيين ومن بينهم موالون للقذافي يريدون إرباك وتشويه الثورة التونسية الفتية.
وإذا كان للاحتجاجات الغريبة لبعض عناصر الأمن الداخلي في تونس من فضل حقيقي فهو بالتأكيد إطلاق صفارة الإنذار لضرورة الشروع الفوري في إصلاح منظومة الأمن في البلاد. كل مراحل الانتقال الديمقراطي في العالم تسارع بذلك بالتوازي مع إصلاح الإعلام والقضاء والإدارة، وتمرد أمن بن علي يشجع كل جيوب الردة في القطاعات الأخرى أن ترفع رأسها من جديد و قد بدأت فعلا. لهذا خطير جدا أن تنتظر تونس أكثر!!