ياسر الزعاترة

لم يكن مشهد مدينة حماة يوم الجمعة عاديا أبدا، فقد منح ثورة الشعب السوري دفعة استثنائية فاجأت السلطة وأذنابها، فضلا عن أبواقها في الداخل والخارج، وزادت منسوب الخوف في أوصالهم على نحو لم يعرفوه منذ اندلاع الثورة.
في البداية ترددت حماة, ربما لأن ذكريات المذبحة كانت تحذرها من أنها ستكون برسم القمع أكثر من سواها، هي التي تصنف مدينة معادية للنظام، مثلما هي حال مدينة بانياس أيضا (بسبب نصرتها لحماة أيضا).
بعد تردد، وبعد أن حازت درعا قصب السبق، ها هي حماة تعيد ترتيب المشهد على طريقتها. نصف مليون إنسان يعلنون أمام العالم أجمع أن هذا النظام ينبغي أن يسقط، وأن المدينة على وشك الأخذ بثأرها ممن أذلوها وقتلوا خيرة أبنائها.
كان ذلك في شهر فبراير من عام 1982, يومها لم يكن أكثر الذين احتشدوا في ساحات المدينة يوم الجمعة يدركون شيئا، وربما كان أكثرهم لم يولدوا بعد. لكن من عاشوا المشهد نقلوه للأجيال التالية، ولا تسأل بعد ذلك عن أناس فقدوا أحبة لهم في تلك المذبحة الرهيبة.
يوم الجمعة خرجت حماة على نحو لم تعرفه سوريا من قبل، ولولا أن المدينة محافظة تمنع النساء من الخروج (نرجو أن يتجاوزوا ذلك ويسمحوا لهن بالمشاركة على نحو ينسجم مع القيم الإسلامية)، لولا ذلك لرأينا مدينة يخرج أهلها جميعا لا يتخلف منهم أحد.
بخروج حماة العظيم في يوم جمعة عظيم، لم يعد أمام النظام شك في أن الأرض قد أخذت تميد من تحته، وأنه أصبح برسم الانهيار، ولن تنفعه أكاذيب الإصلاح والمؤتمرات المرتبة لأغراض الدعاية والتسويق.
لكن المحبين لحماة وكل سوريا يضعون اليوم أيديهم على قلوبهم، فهم من جهة يستعيدون مشهد المذبحة القديم، وهم من جهة أخرى يتذكرون تحذيرات رجب طيب أردوغان حول أن تركيا لن تسمح بحماة جديدة، لكنهم مع ذلك يدركون أن للحرية ثمنها، وأنه آن أوان الخروج من عنق الزجاجة واستعادة الحرية التي سلبها نظام الأسد الأب ووريثه الابن.
اليوم يستعيد النظام أحقاده القديمة على المدينة الباسلة، لكنه لا يدري ما يفعل. هل يجتاحها بدباباته ويمطرها بصواريخه، أم يكتفي باجتياح أمني وتعزيز لسياسة الاعتقال والقتل المستهدف للنشطاء؟
تمت إقالة المحافظ، وبالطبع لأنه عجز عن إدارة الموقف على نحو يحول بين الناس وبين الخروج إلى الشوارع، وأجريت تغييرات في السلك الأمني، ولا نعرف ماهية تلك التغييرات ربما جيء بأناس من النواة الصلبة التي يأتمنها النظام لكي يؤدبوا المدينة الثائرة.
أياً كان الأمر، فقد قالت حماة كلمتها. لكأنّ شهداءها قد عادوا إلى الحياة من جديد وصاروا يصرخون في الشوارع مع المحتجين (الشعب يريد إسقاط النظام). لكأن المدينة قد استعادت صور المذبحة وعلقتها على الجدران من أجل تفعيل روح الثأر لا من أجل بث الخوف.
إنها محطة جديدة تنتقل فيها الثورة من سياسة المظاهرات المحدودة وبالأعداد القليلة إلى مرحلة المظاهرات الضخمة التي يصعب على النظام التورط في قمعها على نحو شامل، من دون أن يكون بوسعنا الجزم بذلك، لاسيَّما أننا إزاء نظام فقد عقله وتوازنه ولا يستبعد عليه ارتكاب أية حماقة.
المشكلة الكبرى أننا إزاء وضع عربي مناصر للنظام، بما في ذلك الدول التي كانت على خلاف معه، وهو ما يمنع معارضي النظام الموجودين في الخارج من أخذ راحتهم في الحشد والكلام، ما يؤكد أن هناك ما يشبه الاتفاق على منع استمرار الثورات العربية، والمعضلة أنهم بذلك يتفقون مع إيران التي يدّعون مواجهتها, إيران التي تقف بكل إمكاناتها خلف النظام.
بعد حماة ستخرج المدن الأخرى، لاسيَّما بعد أن كسرت حلب حاجز الخوف وخرج الكثير من أبنائها إلى الشوارع، مع ضرورة التذكير بالبعد الأمني الرهيب الذي يعيشه الناس في مواجهة نظام لا يرحم.
مرة أخرى، من الصعب الجزم بما يمكن أن يفعله النظام لإسكات الناس في حماة ومنعهم من تكرار مشهد يوم الجمعة، وها نحن نكتب والمدينة محاصرة بالدبابات، لكن الأكيد أن ارتكاب مذبحة جديدة، حتى لو كانت أقل بشاعة من سابقتها بكثير، لن يمر مثل المرة الماضية في ظل الظروف الموضوعية الجديدة، وسيدفع النظام ثمنها الباهظ تسريعا في سقوطه، مع أنه سيسقط لا محالة مهما طال عناده.